يوميات أسبوع 23

الجمعة: خير ما فعلته لنا «كورونا» أنها كشفتنا أمام أنفسنا، إذ كنا نزعم أننا نتمنى الموت أو على الأقل لا نبالى به، فتبين لنا أننا لم نكن في أي لحظة صادقين في تمنينا الموت، وأننا في الحقيقة أحرص الناس على الحياة.

■ ■ ■

السبت: هناك حكايات يصعب نسيانها! منها تلك الحكاية التي رواها الشيخ محمد الغزالى في مذكراته، حين سأله مدرس النحو وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية: أعرب يا ولد «رأيت الله أكبر كل شىء»، فقال على عجل: «رأيت فعل وفاعل، والله منصوب على التعظيم!».

يقول الشيخ الغزالى إنه قد حدثت ضجة من الطلبة، فنظر مذعوراً إلى الأستاذ، فرأى عينيه تذرفان!!

فيما بعد فهم الحكاية. كان المعلم من أصحاب القلوب الخاشعة، وقد هزّه أنه التزم الاحترام مع لفظ الجلالة فلم يقل إنه مفعول أول، وهكذا دمعت عيناه تأدُّباً مع الله!.

يقول الغزالى إنه لم ينس هذا المشهد بعد حدوثه بستين عاما. ولعله كان السبب في الرقة الخاشعة التي ميزت الشيخ الغزالى وخشوعه أمام عظمة خالقه. وهذا هو لباب الدين. تعظيم الخالق حتى يسجد قلبك لعظمته!. وانسحاقك أمام جبروته! ويقينك أنه الفاعل الحقيقى والقوة الوحيدة الحقيقية في هذا الكون.

■ ■ ■

الأحد: الزيف السابع! هذا ما شعرت به وأنا أشاهد فيلم (ملف أوديسا

The Odessa File (1974 )- )

كلكم تعلمون أن السينما تُسمى (الفن السابع)! لكن مقدار تزييف الوعى الذي شاهدته في هذا الفيلم جعلنى ازداد انتباها إلى خطورة فن السينما في تزييف الوعى وتغييب العقول. يبدأ الفيلم بضابط مخابرات إسرائيلى يُقال له إن مصر تعد صواريخ قادرة على تدمير إسرائيل! وأن العلماء الألمان يساعدونها في تطوير الصواريخ.

بعدها تبدأ قصة الفيلم والتى تدور حول مراسل صحفى يتعثر في قصة يهودى ناج من محرقة هتلر! بالطبع يجبرك الفيلم على التعاطف مع هؤلاء الضحايا المساكين. وقصة محرقة اليهود يدينها كل عربى حر، ولكننا لا نقبل في الوقت نفسه أن يتم تعويض اليهود من خلال الاستيلاء على فلسطين وطرد أهلها من أرض أجدادهم. ما العلاقة بين الأمرين؟ أو كما يقول المثل الشعبى (إيش جاب عيشة لأم الخير؟). وهو مثل في صيغة (سؤال استنكارى تهكمى) يقال لكل من يخلط الأمور!.

في الفيلم توجد منظمة سرية مهمتها مساعدة الضباط النازيين القدامى ومنحهم هويات جديدة، ويحصلون على التمويل من خلال العلماء الذين يساعدون مصر (هكذا!)، أما بطل الفيلم فيحاول اختراق هذه المنظمة لإفشال مساعدة النازيين لمصر في تصنيع الصواريخ. وهكذا تجد نفسك متوحدا مع بطل الفيلم، آسفا على المظالم التي حاقت بضحايا المحرقة النازية، مندمجا في أحداث الفيلم الذي خلط بين مظالم النازيين ونصرة إسرائيل، بشكل يمثل كل خطورة الفن السابع في تزييف وعى المشاهدين.

 ■ ■ ■

الإثنين: كتبت من قبل أنه يجوز عندى أن يكون وباء كورونا ابتلاء من الله لعباده، كما يجوز أن يكون عقابا للبشرية على ما تقترفه من مظالم. لا أجزم بأحد التفسيرين، مقتديا بقول المسيح عليه السلام: (تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلَا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

لكن الملاحظ أن الذين يفسرون الوباء بالعقاب، إنما يعزون ذلك إلى شيوع الاختلاط والمراقص والغناء وثياب النساء. لكننى بصراحة أعتقد أن هذه الذنوب هى أقل الظلم الذى تفعله مجتمعاتنا، وأنها تُعتبر شيئًا هينًا بالمقارنة لقهر الرجال وشيوع الفقر نتيجة الفساد. وليتنا نعود إلى القرآن الكريم لنعيد التعرف على أوامر الله ونواهيه، وعلى كبائر ما نهى عنه واللمم من الذنوب. أخشى أن ترتيبنا للمعاصى مختلف تماما عن ترتيبها فى القرآن. فما أكد القرآن عليه فى مئات الآيات لا يمكن أن يكون فى نفس درجة أهمية ما نهى عنه فى آية أو آيتين.

والخلاصة أن تصوراتنا عن الدين قد لا تكون هى الدين نفسه، بقدر ما هى تصورات واهتمامات علماء الدين. عن نفسى أعتقد أن توحيد الله والصلاة والزكاة ومكارم الأخلاق وعدم ظلم الناس هى أهم توجيهات القرآن، وليس النهى عن الملاهى والغناء وثياب النساء.

■ ■ ■

الثلاثاء: اعتدت أن أركن إلى أحلام اليقظة قبل النوم منذ عهد بعيد. وكانت هذه الأحلام تسلمنى غالبا إلى الكرى. كانت تلك هى أجمل لحظات يومى، عندما أرتدى ثوب البطولة، فأحقق ما أخفق غالبا فى تحقيقه فى حياتى الحقيقية. كنت أحلم بالإصلاح. فكرة أن أزرع الصحراء المحيطة بنا من كل جانب وأحولها إلى جنات غنّاء، وأمهد الطرق وأنشئ مدنا جديدة يعيش فيها المصريون بسعة بدلا من هذا التزاحم الذى يضيق الخلق ويفسد الأخلاق! وأحيانا تكون أحلام يقظتى عبيطة كأن أكون بطل تنس خارقا، أو نجما كرويا بارعا يحرز الأهداف. أحلام ساذجة ولكنها كانت تسعدنى وتعوضنى عن إخفاقات حياتى.

لكن فى الأسابيع الأخيرة لاحظت أننى صرت عاجزا عن أحلام اليقظة! وكأن انتبهت فجأة أنه لا بطولة أصلا فى هذه الحياة. وأن الحياة مهما طالت فهى قصيرة! وأنها لا تستحق حتى أن نلفق لها الأحلام! وها هم ذا أهم رجال العالم مهددون فى حياتهم كأفقر الفقراء. فبماذا نحلم إذاً، وما فائدة أدوار البطولة إذا كان الجميع سواسية فى مواجهة الوباء؟

■ ■ ■

الأربعاء: فى جميع العصور كان الناس يعتقدون أن عصرهم هو شر العصور، وأنه زمان فتنة وآخر الزمان. والطريف أنهم كانوا يتعاملون مع الماضى على أنه بركة وخير! ألا ما أكثر أوهامنا فى هذه الحياة!

■ ■ ■

الخميس: أؤمن تماما بقول الشاعر: (بنىّ، إن البر شىء هين.. وجهٌ طلقٌ وكلامٌ لينُ). مصداقا لقوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا). ألا ما أطيب كلام الله!.