يوميات أسبوع 7


السبت: تذكرت فجأة أنه قد مضى وقت طويل لم أسمع خبرًا عن المفكر الكبير سليم العوا. هذا الرجل أحترمه جدًا منذ سمعت تسجيلاته عن «الفرق الإسلامية». ولأننى أعتبر نفسى متبحرًا في عقائد الشيعة وظروف نشأتها فإننى أشهد له أنه يعرف ما يقول! بالإضافة إلى أنه منصف وغير متعصب، وفى الوقت نفسه يسمى الأشياء بأسمائها ولا يهوّن من أوجه الخلاف. أنصحكم بالبحث عنها في فضاء النت الرحب.
سليم العوا لعب أدوارًا مؤثرة في الظل، ولو كتب مذكراته لقام بواجب التأريخ لأدوار مهمة ومجهولة في تاريخنا المعاصر. فهو الشاهد الحى على ما يلتبس علينا من فتن كثيرة، دينية ودنيوية، لا ندرى حقيقة ما حدث فيها لأنه قد تمت إعادة كتابتها. مثلا: شهادة الغزالى على قتلة فرج فودة، وهل أخفى قناعته في عدم وجود حد الردة أصلا كما قال المفكر العراقى طه جابر العلوانى؟ والثانى يتعلق بمآلات الثورة وكان مطلعًا على بواطن الأمور.
متّعه الله بالصحة والعافية، وأرجوه أن يكتب الحقيقة كل الحقيقة، وله سعة أن يؤجل نشرها إلى ما بعد لقائه برب كريم.
■ ■ ■
الأحد: ذهبت لأقدم واجب العزاء. كان المجلس في الهواء الطلق، وكان الجو منعشًا به برودة خفيفة محببة للنفس، والنجوم تومض في السماء غير المتناهية. ووجدت نفسى وقد جاشت بحب الحياة وكأننى لن أموت أبدا! لكن في الطرف الآخر كان مشهد أبناء المتوفى واقفين صفًا لاستقبال المعزين، وقد ارتسم عليهم حزن عميق حقيقى يشدنى إلى الحقيقة التي أحاول الهروب منها: الموت. اليقين الأكيد في حياتنا المليئة بعدم اليقين. وتذكرت فجأة قوله تعالى: «اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم».
أشهد أن هذا التشخيص صحيح (لاهية قلوبهم)! فمتى تبرأ قلوبنا من طول الأمل في الحياة؟
■ ■ ■
الاثنين: يبدو أننى من المدرسة الشرقية التي تعوّل على جمال المرأة، وتكره ظهورها عجوزًا ضامرة بعد فتنة الشباب. والدليل أننى معجب بما فعلته «ليلى مراد» حين احتجبت عن الظهور العام، لتحتفظ بصورتها القديمة الفاتنة في مخيلتنا جميعا. لكن المدرسة الغربية في الحياة أكثر نضجًا، وتتعامل مع الشيخوخة باعتبارها مرحلة طبيعية في دورة الحياة لا تستدعى الخجل! وبالتالى شاهدنا «بيتى ديفيس» مثلا في عنفوان أنوثتها، وشاهدناها أيضًا عجوزًا مجعدة الوجه في أدوارها المتأخرة. وعلى ذلك قس معظم ممثلات هوليوود! لا يخجلن من الشيخوخة باعتبارها دورة الحياة الطبيعية!
■ ■ ■
الثلاثاء: «قال ربِّ إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له». تخيلوا يا أصدقاء كيف أن الأمر بهذه البساطة (فاغفر لى فغفر له)! ربنا كريم جدا ويحب العفو، لكننا نحن- بحماقتنا- لا نستغفره. مع أن رسولنا (صلى الله عليه وسلم) كان يتوب في اليوم الواحد مائة مرة!
■ ■ ■
الأربعاء: أحب اسمه «الواسع» - عَزَّ وجَلَّ- وأشعر به جدًا بعد تجارب العمر ومرور السنين.
«الواسع». كم تصورنا أن الدنيا انتهت عند مأزق معين، وأننا لن تقوم لنا قائمة مرة أخرى! ثم انفتحت أمامنا أبواب الرحمة والسعة لأنه واسع. كم مرة تحطمت قلوبنا وظننّا أننا لن نحب ولن نفرح مرة أخرى. ثم طبطبت يد الرحمة الإلهية على قلوبنا، فإذا بنا نتعافى ونحب مرة أخرى.
■ ■ ■
الخميس: لم يكن «اللاب توب» منتشرًا فى مصر عام 1998، وكانت أسعاره فلكية تدور حول الألفى دولار. مازلت أذكر أول جهاز لاب توب اقتنيته، محل بلا أى لافتة فى أحد الشوارع الجانبية القريبة من مسكنى. لا أذكر كيف ومتى عرفت الطريق إلى هذا الوكر، وهذا الرجل الخطر صاحب المكان، وهو من الطراز الممتلئ، ذو الشارب الكث، ويبدو كَلِص، وتدور عيناه باستمرار وكأنه يتوقع كمينًا! وفى كل الأحوال أُغلق المكتب فجأة كما ظهر فجأة، وأغلب الظن أنه الآن فى السجن!..
اللاب توب كان ثمينًا إلى حد لا يُصدق، ماركة «ميكرون»، أعظم ماركة اقتنيتها فى حياتى! كان اللاب توب حديديًا، ولطالما سقط منى على الأسفلت، فأنحنى وقد أصابنى الهلع على اللاب توب الثمين وكاد قلبى يتوقف! وفى كل مرة أجده صامدًا دون خدش واحد.
المهم أن هذا الرجل باعنى اللاب توب بثلاثة آلاف جنيه، وغالبًا كان مسروقًا، لأنه قد أتى من أمريكا دون شاحن! وبالكاد اشتريته بعد توسلات كثيرة للرجل الخطر، فقد تغلّب شغفى على كل اعتبار أخلاقى، وخدّرت ضميرى بأنه غالبًا مسروق فى أمريكا وليس فى مصر. وثبت لى أن الشعارات النبيلة تُنسى بسهولة مع هوى النفس.
ولكى أتغلب على مشكلة الشاحن، صنعت له محولًا خاصًا فى حجم القنبلة الذرية طراز هيروشيما حتى استطعت الحصول على الشاحن الأصلى من أمريكا، وكانت سعادتى بالحصول على الشاحن الصغير الأنيق لا تُوصف!.
مشكلة أخرى صادفتنى، وهى تعريب الـ«ويندوز 98»، ولم تكن النسخة العربية قد صدرت بعد! وحملتنى أمواج من بعد أمواج، وسافرت مثلما سافر السندباد، والجميع يفشل فى إجراء التعريب، حتى وجدت مهندس كمبيوتر عبقريًا فى أحد مكاتب القاهرة المغمورة قام بتعريبه فى غمضة عين!، ومكثت أرقبه مبهورًا، وقد نجح فيما فشل فيه الأولون والآخرون، والطريف أنه لم يكن مقتنعًا بأنه قد قام بمعجزة، رغم صراخى المنبهر به.
اليوم، صار اللاب توب زهيد الثمن، ويمتلكه الجميع!، لذلك تجدنى أتنهّد بحنين، وأقول بحنكة الكبار للأجيال الجديدة: «أنتم لم تتعبوا فى شىء وأخذتم كل شىء على الجاهز».. لكن ما يأتى بسهولة يذهب بسهولة. ولذلك تجدنى راضيًا عن متاعب حياتى كل الرضا لأنها هى التى تجعلنى- حين أحمد ربى- أحمده بكل صدق من أعماقى.
الحمد لله.