يوميات أسبوع 6


الجمعة: انقلب المسجد رأسًا على عقب بسبب أطفال استغلوا دخول آبائهم فى الصلاة وبدأ لهوهم الطفولى. وعبثًا ما حاولت أحتفظ بتركيزى فى الصلاة، لكن بسمة حانية غلبتنى وأنا أتأملهم: طفل فى الخامسة يتزعم طفلًا فى الرابعة وطفلًا فى الثالثة. لاحظت أيضًا أن طفل الثالثة وديع ومسالم، بينما الطفلان الآخران متنمران وعنيفان بشكل واضح. وبدا الأمر لى أكبر من فارق السن ولكنها المنحة الربانية للوداعة واللطف فى الشخصية. وفكرت كم نحن البشر متباينون غاية التباين. هذا يغلب عليه الرضا والسماحة وهذا يغلب عليه العنف والمشاكسة. وها هو الصغير يذهب إلى أبيه- المستغرق فى صلاته- ملتصقًا به ولائذًا إليه.
ولكن القط يحب خناقه كما يقولون، ولذلك كان الصغير يرجع إليهما كل مرة لأنه يريد اللعب. وفى النهاية الحياة تستمر، وتجد مخرجًا للجميع، وكما يقول الفرنسيون: «سى لا فى»، أى «هذه هى الحياة».
■ ■ ■
السبت: لا شك أن لعنة إغريقية قديمة تطاردنى تجعلنى أشاهد الناس الذين يبصقون فى الشوارع. أشاهدهم بكثرة غير معقولة. أنا فى الأصل أسير فى شوارع مصر منكمشًا محاذرًا أن تقع عينى على أكوام القمامة القبيحة التى تؤذى عينى وتؤلم روحى. وأحاول أن أشيح بصرى عن كل منظر مؤذٍ. وفى النهاية لا أجد سوى أن أرفع رأسى باحثًا عن قطعة من السماء الزرقاء بين البنايات المتطاولة، ككتكوت التوى عنقه!
ومع ذلك لا يكاد رجل يبصق فى الكرة الأرضية إلا واللعنة القديمة تجعلنى أراه! أغمض عينى على الفور ولكن بعد أن يلتصق المشهد بذاكرتى. ولهم فى ذلك طقوس عجيبة تدل على أنهم يستمتعون بما يفعلون. يقذف بشدقيه كرة من اللعاب الأبيض الوفير المختلط برغاوى. لا أذكر أننى بصقت مرة واحدة فى حياتى، وبفرض أننى حاولت فإن شدقىّ لن يستطيعا تجميع هذه الكمية الهائلة، فهل لهؤلاء الأوغاد غدد لعابية نشطة إلى هذا الحد؟ ومما يزيد الأمر سوءًا أنهم لا يقاومون هوايتهم فى توجيه البصقة بينما هم يسيرون بدون توقف. ولذلك إياك أن تتجاوزه فى اللحظة الفاصلة فتصبح بين عاشق البصق وصندوق القمامة! أنت تفهمنى طبعًا.
■ ■ ■
الأحد: كنت فى الحديقة، وكانت فى الجو برودة مُحبَّبة. وفكرت أن أعود إلى منزلى. لكن شيئًا ما دفعنى إلى أن أنظر للقمر، فوجدته منيرًَا فى سمائه العلا غير مكترث بهؤلاء الذين يرفعون رؤوسهم إليه ويحلمون. وفاحت رائحة العشب حولى، مُبلَّلًا ببرودة الندى. وفكرت أنه من المؤسف أننى- بعد زمن ما لا يمكننى تحديده بالضبط- سوف أغادر هذه الحياة ولن أرى القمر وأستحم فى نوره مرة أخرى! وفكرت فى ملايين ملايين الحالمين من أمثالى، منذ خلق الله الإنسان على الأرض، كلهم نظروا إلى القمر فى هيام مثلى، فهل افتقدهم القمر حين رحلوا؟

■ ■ ■
الإثنين: كنت شابًا فى العشرينيات، وكان هو مدير المستشفى فى الخليج حيث عملت لعام. طبيب من المنصورة يُدعى «أسامة»، طويل عريض، كاسح الشخصية، لدرجة أننى لم أكن أدرى هل أهابه جسديًا أم أهابه وظيفيًا! وكانت فيه فظاظة مُحبَّبة. مرة جلس على مكتبه عملاقًا، يحيط به الأطباء المتزلفون، فجاءت سيرة الأطعمة، «وكنا فى رمضان»، فقال بلهجة ذات مغزى جنسى إن الزوجة يجب أن «تغذى» زوجها عشان يغذيها(!!)، وبالطبع عَلَت الأصوات المستحسنة من المتزلفين المعتادين المتحلقين حول كل مسؤول، ولو كان متعاقدًا غلبانًا مثلنا.
د. أسامة لم يكن يطيق رطانات المثقفين وفذلكة المتحذلقين. كنا فى رمضان، وتساءل أحدهم عن حكم قطرة الأنف، وكنت قد قرأت فى «فقه السنة» أن قطرة العين لا بأس بها، أما قطرة الأنف فتفسد الصوم لأنها تصل إلى الحلق. لوى المدير العملاق شفتيه فى ازدراء: «بلاش كلام فارغ. الصيام يفسد إذا وضعتَ الأكل فى (حنكك) وبلعتَه. هو انت بتاكل من مناخيرك؟!».
الآن أرى منطقه معقولًا، ولو أبى الشيوخ. صبّحه الله بالخير أينما ذهب. كلما تذكرته ضحكت من طريقته الفظة المباشرة.

■ ■ ■
الثلاثاء: وهَبْ أنك سألتَنى: «أتقبل أن يترك مسلم إسلامه ويتحول إلى دين آخر ونتركه يمضى دون عقاب؟». أرد عليك قائلًا: «الدين هو ما وقر فى القلب وصدّقه العمل، فإذا لم تقر العقيدة الإسلامية فى قلبه، فما الجدوى أن يظل مسلمًا اسمًا؟! بالعكس من الأفضل للإسلام أن نسمى الأشياء بأسمائها، لأن الجوهر هو المهم وليس المظاهر».
«كل امرئ بما كسب رهين». ولكل إنسان أن يعتقد ما يشاء على مسؤوليته الخاصة، ثم يحاسبنا الله جميعًا يوم القيامة.

■ ■ ■
الأربعاء: أعظم مُشهيات الطعام هو الجوع الشديد. وقتها تشعر بلذة خيالية من أى طعام ولو كان عاديًا. وبذلك تحفظ الحياة عدالتها المرهفة بين الذين يملكون والذين لا يملكون. قدرة على الشراء تصاحبها سدة نِفْس، وشهية مُتطلِّعة يصاحبها فقر. ولذلك أعتقد دائمًا أن الفروق بين الناس ليست كما تبدو للنظرة المتعجلة، ففى الترف امتلاء يُسمِّم الروح، ويُفقِدها كل شغف.

■ ■ ■
الخميس: «دخول الحمام ليس كالخروج منه. والمغامرة الخاطفة السريعة مع امرأة غامضة اشتهيتَها عندما اقتحمت حياتك قد تنقلب إلى كابوس، فالدنيا ليست بهذه البساطة. وحلم الرجل الأبدى فى امرأة تسلم له جسدها ثم تمضى بدون مشاكل ووجع دماغ إنما هو وهم فى رغبات الرجال فقط، فالحياة لا تعاملنا بهذا السخاء، وإنما تقتضينا لكل شىء ثمنه. أما الواقع فربما يتمخض عن فتاة غير مستقرة نفسيًا تطاردك بعدها حتى الموت، وتسبب لك مصيبة».
هذا هو الدرس المستفاد من فيلم «اعزف ميستى من أجلى play misty for me»، بالإضافة طبعًا إلى ما هو معروف من أن «كلينت استوود» فاتن ويعجب النساء، ويجنِّن!.