يوميات أسبوع 19


الجمعة: أدهشنى أن أعرف أن ألمانيا تطبق قوانين اشتراكية فى السكن، نفس حكاية الإيجارات القديمة عندنا. وصارت لديهم أزمة تشبه أزمتنا بعد أن تشبث قدامى المستأجرين بشققهم القديمة الواسعة الرخيصة، رغم أنهم لا يحتاجون إلى كل هذه المساحة! ولكن إيجار الشقق الحديثة ذات الغرفة الواحدة أغلى من شققهم القديمة المتسعة. وأدهشنى أن أعرف أن حكومتهم حائرة فى حل المشكلة، إذ إن حماية الطبقات غير القادرة من مفاخر دولتهم، ولكن الطريف أنهم- مثلنا- يفعلون ذلك على حساب مُلّاك العقارات الذين يندبون حظوظهم. والنتيجة أن أسعار العقار ارتفعت فى العاصمة برلين إلى مستويات خيالية، لو عرفتموها لأدهشكم أن عقارات القاهرة- رغم كل هذا الغلاء- مازالت زهيدة الثمن بجوار أسعارهم الفلكية.

السبت: لا أجد أى تعارض بين حبى للقرآن الكريم وتقديرى لـ«داروين» و«فرويد» و«ماركس»! مع الفارق المؤكد بين المصدر العلوى للقرآن باعتباره كتاب الله، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبين منتج بشرى لعباقرة من أرقى العقول الإنسانية وأكثرها تميزًا.
رأيى أن التطور لا يتعارض مع آيات الخلق فى القرآن الكريم، بل ربما أجد فى بعض آياته إشارات إلى حدوث التطور! وقد أسعدنى أن العقاد يرى ما رأيته، ويرفض هؤلاء الذين يرفضون التطور- كنظرية- توهُّمًا منهم أن القرآن يعارضها، ويعتبر حماسهم الخاطئ اندفاع الصديق الجاهل. وهناك كلام جميل جدًا فى السياق نفسه، قرأته لـ«المودودى» فى صباى، ملخصه أنه لو فرضنا أن الإنسان اندثر من كوكب الأرض، وجاء زائر مريخى يبحث فى الآثار- وكانت لديه رغبة داخلية فى إنكار وجود الإنسان- لقال إن العجل استطاع أن يطور نفسه فتحول إلى مركبات تجرها الأحصنة، ثم فردت المركبات ذراعيها فصارت سفنًا خشبية، ثم تمحورت السفن حول نفسها فصارت سيارات، ولكن السيارات عندما نظرت إلى السماء استطاعت أن تطور أجنحة فصارت طائرات وهكذا.
خلاصة فكرة «المودودى» أن التطور- بفرض حدوثه- لا ينفى الخالق القدير الذى يخلق كل شىء بقدر! سبحانه وتعالى.

أما بالنسبة لـ«الماركسية»، فأراها صرخة احتجاج على التفاوت المرعب بين بنى البشر، هذا يملك كل شىء، وذاك يعيش فى شقاء مدقع. ولا شك أن ضمائر الأحرار تأبى هذا التفاوت. وهو- بالمناسبة- ما دفع الحضارة الغربية فى مواجهة التهديد الماركسى إلى تحسين أحوال العمال، فنهض المجتمع بأسره كما نشاهد الغرب الآن، فكان لنظريات ماركس- رغم كل شىء- يد سخية على البشرية. المشكلة كلها حين حوّل الماركسيون العرب الماركسية من منتج بشرى قابل للخطأ والصواب إلى عقيدة دينية!
أما «فرويد» فلا أملك- كطبيب- إلا أن أنحنى لعبقريته. الطب النفسى قبل فرويد شىء وبعده شىء آخر. يكفيه أن نبهنا إلى أهمية اللاوعى، وآليات الدفاع النفسية، وعمق الغرائز الجنسية، ليكون جديرًا بكل تقدير واحترام.
الأحد: زميلة تسكن فى مدينة «كوم حمادة»، وتطمح أن تنتقل إلى مدينة أجمل. ذهبت إلى شارع قصر العينى بالقاهرة، فوجدت «التكاتك» تسير فى وفرة واسترخاء بأكثر مما تشاهدها فى «كوم حمادة». ذهبت بعدها إلى مدينة نصر، فوجدت الشوارع غير مُمهَّدة والحال ألعن، فأدركت أن حكومتنا اللذيذة ساوت بين المصريين بالطريق الصعب، فبدلًا من تحسين الأوضاع السيئة، خرّبت كل حى جميل، فصار المصريون جميعًا فى الهَمّ سواء.
الاثنين: لاحظت أننا حين تُثار قضية الهجرة، ونسمع شهادات الذين هاجروا بالفعل، فإننا نتوق أن نسمع أنهم ليسوا سعداء! ربما لكى نطمئن أن اختياراتنا كانت صائبة، أو أننا لم نخسر الكثير لأننا لم نهاجر! هذا هو المكنون فى أعماقنا مهما تظاهرنا بالحيادية، فلعل السعداء من المهاجرين أن يخفوا عنّا أنهم سعداء، ولو لـ«يخْزوا» العين! أفضل لهم ولنا.
الثلاثاء: جلست فى الحديقة وكنت سعيدًا جدًا بالبرد اللطيف والشمس المشرقة والأشجار المتمايلة على قبلات النسيم. أحب اللون الأخضر والشمس والخلوة والسكينة، وهذه السويعات المختلسة هى أسعد ما فى حياتى مع الأفق الممتد ومغامرات القطط وغناء العصافير.
من المؤسف أن يكون فى إمكانكم غسل أرواحكم بالجلوس فى الحدائق العامة، ولو لنصف الساعة يوميًا، ولكنكم تضيعون هذه الفرصة بالتكاسل وعدم الاهتمام.
الأربعاء: جلست فى الحديقة بنفس الظروف، لكن واعجباه لست سعيدًا كما كنت بالأمس! إذًا فالسعادة شرارتها تنقدح من الداخل، وحيازتك للدنيا بأسرها لا تجعلك سعيدًا، إلا لو كنت فى داخلك قابلًا للسعادة.
الخميس: قصة جانبية راقت لى ضمن أحداث فيلم «Marathon Man». الممثل المحظوظ راقت له فتاة جميلة فى المكتبة العامة. حاول التعرف عليها لكنها لم تُبْدِ اهتمامًا به، ثم سرعان ما ضاقت بملاحقته، فأسرعت بالانصراف. لكنه كان قد احتاط للأمر، فاختلس كتابها، ومضى يلاحقها حتى باب بيتها، بالحجة المعروفة «إرجاع الكتاب». تناولت كتابها وشكرته فى فتور، لكنه لم ينصرف! اعترف لها أنه اختلس الكتاب لأنها أعجبته. ابتسمت برغمها، فطلب منها فى توسل أن تلقاه مرة أخرى! وافقت فى غير حماسة، ربما لتتخلص منه وتغلق الباب، لكنها أخبرته بأن ذلك كله بلا فائدة!

والتقيا بالفعل. لم يكن يملك سوى حبه لها وبعض خفة الدم! بالتدريج اعتادت عليه وأصبحت تستلطفه. كانت جميلة حقًا وناعمة الملامح يزينها الشباب. تبادلا القبلات ويبدو أنها نسيت عزمها القديم، وتأكيدها الأول أن لقاءهما بلا فائدة، والدليل هو ما حدث فى منزلها بعد قليل، ولا أستطيع أن أوضحه أكثر فى هذا المكان المحترم!
والمغزى، إن كان ثمة مغزى للحكاية: ضع رجلًا وامرأة فى مكان ما، ثم اقدح شرارة الكيمياء، سيتسلسل التفاعل المسحور بينهما، ستجد بعد تسعة شهور أطفالًا لطافًا يحملون بعض سحر أمهم وظرف أبيهم.
فليحيا الحب، أجمل ما فى الحياة.