يوميات أسبوع 9


الجمعة: قرأت مصادفة رسالة إلكترونية قديمة (عام ٢٠١٤) بينى وبين أعز أصدقائى الذى توفاه الله، فأوجعنى قلبى حين قرأتها.
هو كان حزينًا من أمر ما، ويشتكى أنه نحس!
وأنا - فى الرسالة - أحاول إقناعه بأنه (مستر محظوظ)
الآن.. بعد خمس سنين من الرسالة، ما قيمة هذا الشىء الذى أثار ضيقه ودفعه إلى التذمر؟
لا شىء على الإطلاق.
ما أهمية كل أحزاننا؟ كل شهواتنا؟ كل غرائزنا البدائية؟.. كل ما حرصنا أن نناله وظلمنا من أجله، ما قيمة كل جزعنا أن يصيبنا؟ ما قيمة هذا كله بعد أن نموت؟
لا شىء سوى الحزن والآثام. قَبْض الريح كما قال سيدنا سليمان فى العهد القديم.
ليتنا لم نحزن على شىء فاتنا من الدنيا!. ليتنا أنفقنا أعمارنا فى تسبيح خالقنا وتلمُّس رضاه بكل وسيلة. ليتنا لم نعصِ الله قط.

■ ■ ■
السبت: شاهدته طفلًا صغيرًا هشًّا، فى حدود الرابعة من عمره، على حافة حمام السباحة. كان يضحك لا لشىء سوى أنه يرى الدنيا جميلة. يضحك فى وجوهنا جميعًا بمجرد النظر إلينا. ابتسمت ابتسامة أبوة حانية وأنا أتأمله. ويبدو أنه أراد أن يثير إعجابى، فراح فى فورة حماس مفاجئة بجسده الصغير الذى لا يجاوز شبرًا يمارس التمرينات الرياضية لزوم التسخين قبل السباحة. وددت أن أضمه! وأضم كل ما هو صغير وبرىء وهش فى الكون كله.

■ ■ ■
الأحد: بمناسبة بر الوالدين، مازلت أذكر صديقى، واسمه «هشام»، عندما مرضت أمه بجلطة فى المخ، أعقبها شلل نصفى، وكيف كان يحاول تقبيل الأقدام كى يسمحوا له بالمبيت تحت أقدام أمه فى غرفة العناية الباردة، وقد كان ذلك من أصعب ما يكون فعلًا. ولأنه مهندس ونحن أطباء فقد لجأ إلينا، وعبثًا ما حاولنا أن نفهمه أنها قواعد يجب الالتزام بها، قلت له: «مفيش مكان للنوم يا هشام. حتستفيد إيه لما تنام على البلاط الساقع تحت السرير فى عز الشتا، وأمك أصلًا فاقدة الوعى؟». لكنه هزنى حين قال: «الصبح لما حتفتح عينيها وتشوفنى تحتها حتنبسط يا أيمن». أخفيت دموعى بصعوبة، وأرقت كرامتى أنا الآخر للأطباء والممرضات حتى يغضوا الطرف عنه. وراح يغدق الإكراميات للممرضات حتى يأنسن إليه.
صديقى هذا لا يُحسن التكلم عن الدين (كلمتين على بعض). ولكنه - بالفعل لا بالقول - أثبت أمام خالقه صِدقه. لذلك أتوقع أن درجات الآخرة ستشهد انقلابًا عنيفًا لن يخطر على بال أحد. وربما من تظنه فاسقًا سيفوز بالدرجات العُلى. وربما من يعجبنا قوله (ويشهد الله على ما فى قلبه) يتبين يوم القيامة أنه ألد الخصام. لأن الحساب سيفرز الصادق من المدعى. يقول الله عز وجل: (ليجزى الله الصادقين بصدقهم)، فيا ويلنا من الصدق! بعد أن كذبنا وأدمنا الكذب حتى صدّقنا أنفسنا!.

■ ■ ■
الإثنين: أحببت جدًا فرانك سيناترا، فى دور المُحقِّق «the detective 1968»، حتى إننى شاهدت الفيلم عدة مرات!، المُحقِّق الشريف المُحنَّك، الذى لا تجد فى جيبه سوى بضعة دولارات، لكنه شديد المراس، تستطيع أن تركن إليه وتطمئن إلى حمايته.
نظريًا، العمل فى الشرطة هو أقصر طريق إلى الجنة، أن تكون عونًا للمستضعَفين، الذين لا حيلة لهم، وترهب المجرمين العتاة، الذين يعيثون فى الأرض فسادًا. ولكن المسافة بين النظرية والواقع لا يستطيع أن يحكم عليها سوى رجال الشرطة أنفسهم! فهل يشعرون بداخلهم أن نصرة المظلوم هى عملهم الرئيسى، وأنهم قديسون، أو يجب أن يكونوا كذلك؟

■ ■ ■
الثلاثاء: عندما ذهبت إلى مركز اللياقة «الجيم»، بنصيحة من طبيب العلاج الطبيعى لتقوية عضلات ظهرى، بعد أن عذّبتنى خمسة عشر عامًا كاملة. ذهبت وكلى حماسة، شاعرًا أننى عدت شابًا فى العشرين، وأفكار عبيطة تدور فى ذهنى من قبيل: «سأصبح قويًا مفتول العضلات ورائعًا!». ذهبت إلى مدرب اللياقة بحماس، فقال لى، فى غير اكتراث: «ابدأ بالتسخين على آلة الجرى الكهربائى لمدة 15 دقيقة». بالعافية تحملت سرعة متوسطة حتى لا أقع. حين نظرت إلى جارى- من قبيل الفضول- فوجدته عملاقًا مفتول العضلات، وكأنه جندى صاعقة! كان يجرى بسرعة خارقة، ثم يستدير إلى الخلف والآلة الجهنمية تركض، ثم بجانبيه الأيمن والأيسر، فلا هو يسقط ولا هو يتعثر!.. ضغطت على زر التوقف، مثل أى بطوط مُحْبَط، وغادرت «الجيم»، وسط نظرات المدرب المتسائلة!.

■ ■ ■
الأربعاء: اليوم يبدأ العام الجديد. شعرت بفرحة غير مُبرَّرة عند الساعة الثانية عشرة. والحقيقة أن هذا الرقم «2020» مميز فعلًا، ويستحق الاحتفال به، فعسى أن يجعله الله أجمل من كل الأعوام السابقة. نحن يا رب عيالك الفقراء إليك، وما من خير يصيبنا إلا من جودك وكرمك، فتصدق أيها الإله العظيم على مخلوقاتك الضعيفة.

■ ■ ■
الخميس: استمعت باهتمام إلى حوار المطربة عايدة الأيوبى مع قناة «بى بى سى». اهتمامى بالمطربة منشؤه ذكريات غالية مع أغنيتها الرائعة «إن كنت غالى عليَّا»، التى تفيض عذوبة ورقة. تبين أن توقفها عن الغناء لأعوام طويلة لم يكن لأسباب دينية، مثل اعتقادها بحرمة الغناء بعد تحجبها، وإنما لأنها تكتب كلمات أغانيها وتلحنها وتغنيها. وكانت أغانيها العاطفية الماضية هى طبيعة مرحلتها كطالبة جامعية. ثم تجاوزت هذه المرحلة إلى الأمومة ورعاية الأطفال وعملها كمبرمجة كمبيوتر. وهكذا، حين عادت إلى الغناء، فلمجرد أن تعبر عن مراحل أخرى فى حياتها «أغانٍ وطنية- صوفية- اجتماعية».
لم أقتنع بمبرراتها ولكنى احترمت أنها تفعل ما هى مقتنعة به، ولو كان ضد المال والشهرة. فى رأيى أن الفنان يعيش فى حالة ربيع دائم، وإلا لَمَا استمتعنا بروائع أم كلثوم وعبدالوهاب ونجاة وكل المطربين والمطربات العباقرة، الذين مَدَّ الله فى أعمارهم.