المتجر المسحور

المكان كما أحبه بالضبط . المفصل التاريخي بين شارعي سعد زغلول وصفية زغلول . وعلى مقربة منه ينتصب تمثاله العجوز صارم الملامح صلب التكوين . تصافحني رائحة الدروب المغسولة بشذا البحر. أحب هذا الجو السكندري ويحبني، المعاطف الثقيلة والبرد الجميل، السماء الرمادية تنفذ منها قبلات الشمس، زرقة البحر تؤكد وجودها عند انحناءة كل درب، أتنزه في الطرقات المبتلة بقطرات أمطار وقبلات أمواج ، يندلع الموج متحررا من سجنه الأبدي فيغمر الطرقات السكندرية بالعشق، ذهب الصيف فجئت أنا.
محطة الرمل شبه خالية. الحوانيت مهجورة. يسعدني تأمل واجهات الحوانيت المصقولة باحثا عن شيء لا أعرفه، شيء انتظره وينتظرني. 

يطالعني متجر صغير في شارع صفية زغلول. تتجمد نظراتي على الواجهة الزجاجية. مجسم كرة أرضية أنيقة في الركن الأيمن يكسوها غبار خفيف، عجيب أني لم ألاحظ المتجر من قبل! تتسلل نظراتي إلى الداخل، كرسي خشبي عتيق ومنضدة مرتفعة. أعجز عن الانصراف، أعاني من حالة عشق قديم بالخرائط وافتتان مزمن بمجسمات الكرة الأرضية. لا أذكر أني شاهدت واحدة ألا واشتريتها على الفور. أمسكها في حرص ، أتأمل الجزر الطافية على تخوم البحر، وأجوب القارات اليابسة في غمضة عين حريصا ألا تبتل أصبعي من كوكب ثلاثة أرباعه ماء. كوكب أزرق مخضب بالدماء. 

أتسلل في خطوات مرتبكة إلى داخل المتجر. يظهر رجل عجوز بابتسامة محايدة. يهز رأسه الأصلع بالتحية. أشير إلى الكرة الأرضية في واجهة المحل. تكتسب الابتسامة دفئا ويشيع الود. يقول: هل رأيتها ؟ أحقا رأيتها ؟ أهز رأسي، لماذا يبدو سعيدا ومندهشا ؟ هل كان المفروض ألا أراها ؟ يفتح الواجهة في حماسة، يمسك المجسم  من القاعدة في حرص مبالغ فيه. لماذا يحملها بهذه الطريقة وكأنه يتجنب لمسها ؟ يضعها على المنضدة العتيقة، يهمس لي، أخيرا جئت!! تتعلق عيني بالكرة الأرضية. راسخة ، ثقيلة بشكل ملحوظ رغم حجمها الصغير، أنيقة جدا. هل قال ( أخيرا جئت ) أم أنني أتوهم!! ، ما معنى هذا ؟ يختفي في الداخل . أنظر حولي . مذياع عتيق كبير الحجم بشكل غير مألوف هذه الأيام يعلن عن نصف ساعة مع أغاني عبد الوهاب . تبدأ افتتاحية أحفظها عن ظهر قلب لقصيدة كليوباترا. أرمق الكرة الأرضية في رهبة وأمسح الغبار العالق براحة يدي في شبه حنان وشيء من افتتان. أرفعها في حرص فتهتز يدي من ثقلها . 

حاسب!! صيحة منزعجة من البائع العجوز الذي ظهر فجأة. حرصه مبالغ فيه حقا. سأشتريها أيا كان ثمنها فلا تقلق . يصرخ الرجل : ضعها على المنضدة برفق، ربنا يستر، علام الرهبة ؟ . ولماذا اختفت ابتسامته الودودة ونبض عرق على جانب صلعته ؟يده ترتعش ونظرة ذعر حقيقية تسكن عينيه. هل قال ( ربنا يستر ) أم أنني توهمت؟ يرمق الكرة الأرضية وهي تهتز اهتزازات خفيفة لا تكاد ترى بالعين. عبد الوهاب يتنحنح . علامة الجودة المؤكدة لأغنيات الأربعينات الموسومة بالأصالة. وتلك الحالة العصبية التي ألمت بالمطرب العبقري وهيأت إليه أن صوته لن يخرج فراح يستعيد ثقته بنفسه بنباح غامض . كل شيء هنا ينتمي للأربعينات .الأثاث الخشبي . الصورة العملاقة للنحاس باشا بطربوشه الشهير. البائع نفسه. بالكاد استرد لونه عندما سكنت الكرة تماما. ربنا يستر!! لماذا يكرر هذا القول مرارا؟

وبدأ كأنه يبذل مجهودا إضافيا ليسترد جأشه. يدقق في الكرة الأرضية وينظر لي في عتاب صامت والهلع يتشكل في عينيه الباهتتين. هل أمسكتها بيديك ؟ أومأت برأسي وقد عداني خوفه وأشرت في صمت إلى راحة يدي الملوثتين بغبار خفيف غير ملحوظ. قال بصوت هامس : إذا فهو أنت! عبد الوهاب يغني : يا ضفاف النيل ، بالله ويا خضر الروابي، هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب؟ أنا ماذا ؟ سألته في دهشة، قال في عجلة : أمامك عشر دقائق لتقرر. قلت وأنا ألهث : لا أفهم شيئا. قال بسرعة: لا وقت للشرح فسيستهلك وقتا أنت بحاجة إليه. هذه الكرة مسحورة!! ستنقلك إلى المكان الذي ستضع عليه إصبعك بعد عشرة دقائق منذ لحظة لمسها. صدق أو لا تصدق فإنه سيحدث في كل الأحوال . لا تضع الدقائق القليلة الباقية في محاولة الفهم وتذكر أنه لا توجد أمامك فرصة للتصحيح . هيا أختر وطنك الجديد . 

اختفى العجوز. أصدقه، لا أصدقه، بل أصدقه. شيء في أعماقي يعلم أنها الحقيقة. الكرة مسحورة والحانوت مسحور. بل غير موجود. أعرف شارع صفية زغلول كراحة يدي ولم يكن لهذا المتجر وجود قط . عبد الوهاب يكرر " أسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب ." . هذا المقطع بالذات أحبه جدا ولكن للأسف لا وقت لسماعه. أطلس نفسه لم يملك فرصة كالتي واتتني . أنا المخصوص بالاختيار، لذلك قال : أخيرا جئت وانزعج جدا من اهتزاز المجسم . لا ريب أن ما يحدث له يحدث للأرض في نفس اللحظة لذلك كان يحملها في حرص بالغ . هل حدث بسببي زلزال في اليابان وفيضان في بنجلاديش؟ معذرة أخواني في البشرية لم أكن أعلم.

أهم قرار في حياتي. وطني القادم . ينزلق إصبعي السبابة في لهفة على المجسم عبر المحيط الأطلنطي. أمواجه تتلاعب بالسفن والبحارة غاضبون على قبطانهم كولومبس الذي زعم أنه سيصل إلى الهند  من جهة الغرب ولولا ظهور جذوع خشبية وبقايا سفن وطيور بحرية دلتهم أن الشاطئ قريب لقتلوه. من بعيد يلوح الشاطئ الشرقي للأرض الجديدة فيقفز البحارة فرحا لكن ذلك لم يكن مبهجا للقبطان المسكين الذي لم يرد غير الوصول للهند . وحتى موته ظل مقتنعا أنها الهند وليست أي مكان آخر ولذلك سمى سكانها الهنود الحمر. بعدها مات مقهورا.

أختصر القرون في لحظات. أطارد عقرب الثواني . سفن متتالية تخوض غمار الأطلنطي إلى الأرض الجديدة. خليط من مغامرين وحالمين وأفاقين وسفاحين يسقون الأرض الجديدة بدماء سكانها الأصيلين. وسفن القراصنة رائحة غادية تجلب العبيد من أدغال إفريقيا مكبلين بالأغلال ليموت في قاع السفن تسعون من كل مائه. القارة البكر لم تعد بكرا ، وعبير أشجار تفاح كاليفورنيا تخالطه رائحة دماء صدئة وموسيقى البوب مهما صخبت لا تحجب أنات عبيد مقهورين.  وطائرتان محملتان بعش الغراب النووي تقلعان في طريقهما إلى المارد الأصفر لتقتلان مئات الألوف بدم بارد. وتمثال الحرية عاهرة ملوثة بالأصباغ تغمز بعينها في وقاحة. وحتى لو كانت هي القوة العظمى فلن أتخذها وطنا. ليتني ما أضعت هذه الدقائق الثمينة في التفكير.

يهبط الإصبع إلى أمريكا اللاتينية. غابات الأمازون ومعابد بيرو. حضارة الإنك الذهبية وتعاويذ السحرة. الدماء الحارة المختلطة وفنجان البن البرازيلي على رقصات الكاريوكا. خلطة الجمال اللاتيني التي حيرت العالم . ولون البشرة التي احتاروا في وصفها. ضوء آخر شعاع من شمس الأصيل سقط في بحيرة عسل ورحلة نجم سحيق تنتهي في العيون اللاتينية.

فوضى وجنون. انقلابات متتالية في جمهوريات الموز. قبعات مكسيكية وصفقات مخدرات. وطن يقتل فيه جيفارا لن أتخذه وطنا. ينزلق أصبعي عبر المحيط الهادي متابعا رحلة ماجلان التي أثبت كروية الأرض منذ قرون وانتزعت يوما من الأبدية لدورانه عكس اتجاه الشمس. حار علماء عصر النهضة في تفسير اليوم المختلس. لم يعرفوا أن المعرفة أثمن من كل الكنوز.  قال لملك أسبانيا أنه يعرف المنفذ إلى الهند الحقيقية. تمرد عليه بحارته خلال الرحلة، ولولا عثوره على المنفذ إلى المحيط الهادي لقتلوه. بعدها قتله ملك صغير من ملوك الجزر فترك بحارته جثته البيضاء العملاقة منكفئة في البحر وفروا بجلدهم.

جنوب شرق آسيا. أمطار تنهمر بلا انقطاع وأشجار جوز هند تطاول السماء.. معابد أسيوية  ورائحة بخور جاوي..القامات القصيرة والتقاليد المرعية توجب الانحناء لخصمك قبل أن تقتله. الرياضيات الأسيوية بكل عنفها ورشاقتها.. بلاد الديانات الأخلاقية وأشجار السرو وأمثال شعبية تعج بالنمور. وثياب زاهية منقوشة ترتديها فاتنة في حجم دمية. 

لن أقضي بقية حياتي آكل الأرز المعجون بالعصا الخشبية وأنحني مائة مرة في اليوم الواحد فحالة ركبتي لا تسمح بذلك. فلأغادر بسرعة إلى الهند، جنة الأبقار ووطن الفلسفات واللهجات التي لا تحصى..أتعثر في سحرة أفاعي وحبال تتشكل على أنغام ناي، رائحة رطوبة وبخور وعرق. وطن مكتظ بمئات الملايين لا يحتمل واحدا آخر.

دقيقة واحدة هي ما كل تبقي من وقتي الثمين..في فتور أنظر لأوربا العجوز المنهكة العدو والصديق، النور والنار، الملح والسكر. إيطاليا سيدة عصر النهضة والقنوات المائية والدماء الحارة. ألمانيا الصارمة المدققة لا تناسب رجلا فوضويا مثلي. فرنسا العجوز تتجمل بالمساحيق وتبحث عن عشاق شباب. إنجلترا الباردة المتكبرة. معذرة بلاد الشمال فطقسكم أبرد من اللازم ونساؤكم شقراوات عن اللازم. أحب الزيتون يا بلاد الإغريق ولكن آثاركم تضحكني أنا سليل الفراعنة. البحر المتوسط مغلق على إسراره ..كنوز وقراصنة وسفن غارقة..ثانية أخيرة ممنوحة لي. في إصرار ينزلق إصبعي إلى حيث بدأت الرحلة. يتحول الإصبع إلى مسلة فنار للسفن الضائعة.

إسكندرية، حكمة القرون، وطني المختار، قبلة السماء للأرض، وهدية الإسكندر للعالم. كليوباترا تنسل من السجادة الملفوفة كخبيئة ذهبية، أنطونيو يستنجد بهيبة الملك على قلب لا يطاوعه، ومراكب الفرعون تنتظر العروسين في رحلة نيلية، محمد كريم يصافح التجار والأعيان وهواء البحر ينفخ عباءته، نلسون يدخن الغليون وقد لوحته الشمس، مراكب الأسطول تجوب البحر بحثا عن سفن نابليون المختبئة في أبي قير. 

العمائر المبنية على الطراز اليوناني . زمن الصناع المهرة والشرفات المتسعة والأسقف العالية. حينما كانوا يملكون البال الرائق لنحت التماثيل على واجهات البيوت. الدنيا قليلة العدد والقلوب المكتظة بالرضا. أتحاشى رؤية المطاعم الأمريكية الحديثة التي تبدد التاريخ المهيمن في محطة الرمل. البحر ينسكب أمامي كتلة زرقاء محكمة ملتحما بالسماء.

أغادر إلى شارع صفية زغلول ..أستدير لأرى الحانوت العتيق عالما مقدما أني لن أجده أختفي تماما . يتلاعب الهواء بشعري ويلثم رذاذ الموج وجهي فأصرخ من أعماقي : 
أحبك يا وطني !!