الكرة البلاستيكية الحمراء

السماء تتميز بنصوع مدهش، والشمس تسحب ذيولها وتأذن بغروب قريب. السكينة - كسحب الصيف - رقيقة وعابرة، والأفكار تزدحم داخله، يشعر كأنه سُرق!.. أحدهم - لا يدرى من - نشل سنين عمره على حين غفلة منه! أحقا صار رجلا كبيرا يُفترض فيه الحكمة وسداد الرأى والنضوج؟! كيف حدث ذلك وهو يشعر داخله بأنه طفل صغير؟ ولماذا يكبر الجسد وتبقى الروح على طفولتها؟ لا يزل فى نظر نفسه الطفل النحيف قصير القامة الذى كان يلعب بكرته البلاستيكية الحمراء فى شرفته الواسعة بالساعات.

ابتسم للذكرى. كان الشارع يموج بمن فيه، لكن كلهم مثله، ينظرون إلى الداخل فقط! عزف منفرد، مسرحية يتحدث أبطالها بلغات منقرضة. لغة الطفولة، الرائقة، ذات النغم الساحر والنظم البديع. كان عقله الطفل يخلق مسرحية ويقيم حوارات مع نفسه طيلة الوقت، وكلما سدد الكرة ببراعة فى سور الشرفة، سمع بوضوح التصفيق الجنونى يدوّى فى رأسه إعجابا باللاعب الخطير.
توقف عند الإشارة وقد اتسعت ابتسامته: رحمك الله يا أبى. حينما تزايدت الضجة صمم على سحب الكرة منه فترة الظهيرة كيلا يزعج الجيران. رغم توسلاته ودموعه أودعها سطح الدولاب فى غرفة نومه ثم أغلق الباب.
أخضر. لون الإشارة أخضر.
 تحولت الابتسامة إلى ضحكة صريحة وهو يعبر الطريق. يذكر أنه لم يصبر على الحرمان من الكرة فترة الظهيرة. لذلك فتح الباب فى هدوء وهو يبتهل إلى الله ألّا يُحدث الباب صريرا، تسلل إلى الغرفة بأقدام حافية، سمع صوت تنفس أبيه المنتظم فداخلته الطمأنينة، ومثل قرد صغير مُدرّب تعلق بحافة الدولاب وأمسك الكرة، وبينما يهبط فى خفة، إذا بالكرة تفلت من يده، وتبدأ رحلة السقوط.
لا يزال يذكر مشاعر الفزع التى استولت عليه لحظتها. مشاعرنا فى الطفولة دائما مُضخّمة: الدهشة، الحزن، الخوف، السرور. لكنه استطاع تدارك الأمر بمعجزة، مدّ قدمه وفى حرفنة عالية استطاع أن يثبتها فوقها ويهبط من حافة الدولاب، كلاعب سيرك مُحترف، ليتلقفها فى هدوء.
كانت مغامرة ستُفضى غالبا لعلقة، لكن الله ستر. خرج من غرفة أبيه حاملا كرته البلاستيكية الحمراء وهو لا يصدق النجاة. وسرعان ما شهدته الشرفة يسددّ فى الحائط بكل قوته، منتشيا بالتصفيق الجنونى يدوّى فى رأسه الصغير. أيامٌ حلوةٌ رغم أنه لم يقدرها وقتها. كان يريد أن يكبر بسرعة ويستبق الأيام.
وفجأة، لا يدرى كيف حدثت المعجزة، اختلط الماضى بالحاضر، واخترق حاجز الزمن. اختفى الطريق من أمامه وإشارات المرور.
 ومن رحم الماضى شاهد كرته البلاستيكية الحمراء تتهادى فى السماء وتهبط أمامه فى هدوء مثير. وبسرعة لا تصدقها العين، وجد نفسه يتناقص، يصغر، ينكمش، يتحول إلى طفل صغير. وفجأة شاهد والده نائما على سرير مُعلّق بالأفق. لكنه كان هذه المرة واثقا من نفسه! بمهارة وتحكّم وحرفنة، تلقّى الكرة على قدمه وثبتها فى هدوء. وسرعان ما راح «ينطئها» ويلعبها بكعبه، والجماهير تكاد تجن من التصفيق. وعلى هذا النحو راح يسير فى الشارع، وسط هتاف جنونى يدوّى فى رأسه الصغير.