القطرة العاشقة

حينما كنت طفلا كنت أزوره كل مساء.. صداقة عجيبة ، ولكن حقيقية نشأت بيني وبين جاري العجوز الأعزب الذي تملأ التجاعيد وجهه حتى أعادت تشكيل ملامحه. اجلس معه في الشرفة المتسعة، يسقط ليل الصيف الساحر متأخرا، ومع النسائم الرحيمة تبدأ حكاياته.

ذات مساء طلب مني أن أجلب له كوب ماء، فتحت الصنبور وملأت الكوب حتى حافته ثم عدت إليه، جلسنا بجوار سور الشرفة نرقب قبة السماء بنجومها الزاهرة، وفجأة أمسك بالكوب، وسكب منه قطرة صغيرة على يده ثم قال لي في صوت عميق : - هل تعلم أي رحلة قطعتها تلك القطرة من الماء حتى تصل إلى هذا الكوب؟
لم أرد لأنني كنت لا أعرف، ولأن الرهبة تملكتني من رنين صوته العميق وسط السكون ثم غزتني قشعريرة وأنا أتأمل تجاعيد وجهه وعينيه الباهتتين. نكس رأسه وكأنه يسجد ثم غرق في صمت طويل.

أنا أصل الحياة ، هل تعرفون من أنا؟ العناق المقدس بين ذرة أكسجين و ذرتي هيدروجين.عرفت كل شيء وسافرت في كل مكان، ترقرقت مع الأنهار، سبحت فوق البحار، تسلسلت إلى باطن الأرض وعرفت إسرارها، تدفقت في شرايين البشر وفهمت أفكارهم ولامست أحلامهم، ثم سأمت الكوكب الأرضي فتبخرت في الهواء، طرت كالعصافير، حلقت كالنسور، وقعت في غرام الشمس، صممت أن أرتفع حيث السحب ثم يجذبني الحنين إلى كوكب الأرض في رحلة أبدية مستمرة.


هذه المرة هبطت فوق أدغال أفريقيا.. فوق قمة جبل عال كان تجسدي، تحولت مرة أخرى إلى الحالة السائلة، أنسبت إلى أسفل، في نعومة أنزلقت حتى أصبحت قطرة في نهر ( كاجيرا ) أسم صعب ولكن الأسماء لا تهم من يصنع الحقيقة .. رحلة كثيرا ما قطعتها وسط مروج إفريقيا الخضراء. نظرت للقطرة المجاورة فوجدتها خائفة ومذعورة، سألتني : أين يذهب هذا النهر؟ ابتسمت لها في تشجيع: إلى أحضان أمنا الكبرى (بحيرة فيكتوريا ) حيث تحلق الطيور وتغفو التماسيح وتستحم أفراس النهر..
سألتني عن اسمي، ضحكت وقلت : منذ متى تعرف قطرة مياه اسمها؟  سألتني عن عمري، قلت: ملايين السنين. قالت في خوف: لقد ولدت بالأمس فقط ولا أعرف شيئا بعد عن هذا العالم، سألتها وأنا أرتجف: أحبك فهل تتزوجيني ؟ ترقرقت من الخجل ولكنها لزمت الصمت فعرفت أنها موافقة. أمسكت يدها فلم تمانع، قلت في رقة: لقد اقتربت أمنا المقدسة ( بحيرة فيكتوريا ).

البحيرة العملاقة التي يبدأ عندها النيل رحلته الطويلة حتى البحر. وقفنا معا نرقب المياه وهي ترغي وتزبد وآلاف الأسماك تثب كأقواس فضية لامعة عند مسقط النهر.. تتصايح القرود وتتأمل الغزلان المشهد الساحر بعيون متسعة.. والشمس الفضية تحولني بكيميائها الغامضة إلى حبة لؤلؤ وتحول حبيبتي الصغيرة لدرة ثمينة.. يخفق قلبي فأخطف قبلة ،تتنهد فأذوب.


نواصل الرحلة جنبا لجنب.. الرذاذ يتطاير في ملحمة مرعبة عند الشلال.. الطبيعة في ذروة سطوتها، أصرخ وسط الهدير: تشبثي بي جيدا وإلا فقدنا بعض البعض، تصرخ هي الأخرى : لن أتركك أبدا..أنت لي وأنا لك..
نهبط في مجرى متسع . أتنهد تنهيدة الخلاص حينما أجدها بجانبي.. مغامرة مدهشة، هذا النهر عنيف حقا، هكذا تقول فأهمس لها : وكذلك الحب.

ننساب سويا في رشاقة، يحشر النيل العملاق نفسه حشرًا ليدخل بحيرة ( ألبرت ) الضيقة المالحة ثم يخرج منها عذبا سلسبيلا.. هذه هي معجزة الحب، تقول لي : بكلامك الجميل يتحول إلى شهد.. يخرج النهر من البحيرة هادئا ليدخل البحيرة الثالثة (إدوارد).. يتحول بعدها إلى مستنقعات راكدة.. تضيع ملامحه ويتحول إلى عدد لا حصر له من القنوات، وعلى مدى البصر أعشاب كثيفة سميكة تحركها الرياح. .تخاف حبيبتي فأقول لها أغمضي عينيك وفكري في ذكرياتنا الجميلة، في مستقبلنا الأجمل.. تبتسم راضية، وأجدف أنا كملاح ماهر.. تشرق الشمس فلا أصدق عيني من رؤية كل هذا الجمال حولي! كيف تحولت المستنقعات إلى فردوس غفل عنه الزمان؟


جنة من الطيور وفي جزر النهر الوسطى تقضي طيور الشمال المهاجرة الشتاء في انتظار الربيع وحولها الطيور الأفريقية تمارس حياتها في هدوء، لا تعايشها ولا تقاتلها ، الكل يحيا في عزلة وسلام. تفتح صغيرتي عينيها وتنظر حولها في افتتان ثم تهمس لي " أنت أجمل ."

تلوح الخرطوم على مرمى البصر ليتم اللقاء الشهير بين النيل الأبيض والنيل الأزرق النابع من مرتفعات الحبشة والذي يمد النهر بمعظم مائه. لونه أسود بتأثير الصخور البركانية التي جرفتها من فوق هضاب أثيوبيا الزواج المقدس بين النيلين يصنع ذلك النهر الذي نعرفه.. يتلوى النيل الذي عذبه الشوق إلى الأرض السمراء، يطوي آلاف الأميال جامحا معربدا حتى يدرك بلاد النوبة، حينئذ يدور رأسه من ترجيع ناي، من أنشودة نوبية حزينة، من شيخ ذابل العينين يعلم حفيده درس العشق الأول.
وعندما يدرك النيل أسوان ويرنو إلى الحبيبة السمراء التي لا تمنحه غير نصف ابتسامة، وغموض قلق، ثم تأمره بالرحيل. ينطوي المارد الجبار الذي روضه العشق، مترقرقا كنبع عذب، وقد غدا جموح شوقه حزنا مستمرا يسطره على أوراق البردي الحزينة.

تتعاقب المدن..الأقصر، قنا، سوهاج ، أسيوط ، المنيا ، معابد فيلة والأقصر والكرنك ، حيث يبلغ الرجل الطويل القامة ارتفاع إصبع التمثال لا أكثر.. وتكاد دقة النحت تصور الهواء الذي تنفسه الفرعون الملك..تقول حبيبتي ضاحكة: رحلة شهر عسل خيالية ومجانية كذلك.


مررنا على فتيات ضاحكات يسبحن في النهر وعجوز يحاول صيد الأسماك في العصاري، تأملنا ظل القمر وهو يستقر في قاع النيل، ويشهر ضوءه في وجه الظلام المتربص بالأعماق..


تقترب القاهرة.. مدينة الألف مئذنة والقباب الفضية لقلعة صلاح الدين تتوهج في ضوء الشمس وترمق النيل الحليوه الأسمر..ومن مذياع عتيق ينساب صوت المطرب العبقري "النيل نجاشي ... حليوه أسمر ..أرغوله في إيده .. يسبح لسيده .حياة بلادنا .. يارب زيده"


أرنو إلى الشمال.. هل أسلك فرع دمياط أم رشيد ؟ لكن قوة شفط جبارة جذبتني فجأة..أصرخ في جنون وأتشبث بحبيبتي.. يبتعد مجرى النهر عني فلا أملك اللحاق به وأتجه مقهورا نحو أماكن ضيقة.. اختفت الشمس البهيجة وأتسرب في أنابيب طويلة مظلمة، قلت في أسف: لن نكمل رحلتنا حتى البحر، قالت المهم أننا معا.

انتهت الرحلة وبقينا صامتين نلهث.. فجأة وجدت قوة تدفعني إلى الهبوط.. أمسكت بيد حبيبتي بقوة وأنا أشاهد القطرات أمامي تنزلق إلى أسفل.. إلى كوب يحمله طفل يملؤه حتى الحافة.. كنت القطرة الأخيرة لحظي العاثر. أغلق الطفل الصنبور بقوة. حاولت جذب نفسي إلى الداخل مرة أخرى لكن جاذبية الأرض كانت أقوى مني.. حاولت أن أجذبها معي لكنني لم أتمكن..الطفل يحملني ويبتعد، وهي تصرخ: لا تتركني.. أصرخ في جنون: سنلتقي حتما.. سأبحث عنك لملايين السنين القادمة وسط كل قطرات العالم .. سأجوب كل البحار، وأسبح في كل الأنهار، وأفتش عنك في باطن الأرض وفي جوف كل مخلوق.. لن أنساك أبدا.


كان الطفل يحملني ويبتعد دون أن يسمع صراخي.. كوب الماء يهتز وقبة السماء تظهر مرة أخرى حتى استقر الكوب في يد معروقة مرتجفة.. نظرت إلى النجوم الزاهرة فوقي فتنهدت.. مال الكوب قليلا فانزلقت على يده النحيلة.. وسمعت صوتا عميقا وسط الصمت المهيمن يقول للطفل المأخوذ: - هل تعلم أي رحلة قطعتها تلك القطرة من الماء حتى تصل إلى هذا الكوب ؟