أستاذ وحيد

حدث هذا منذ وقت طويل .. خمسة عشر عاما كانت وقتها كل عمري ..أما هو فكان جاري في الشقة المقابلة ويكبرني بعدد لا بأس به من السنين ..لم يكن أستاذي بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنه كان يقوم بتدريس اللغة الفرنسية لمدرسة خاصة ولذلك قررت أمي أن أتلقى دروس السنة الثانية الثانوي معه أثناء العطلة الصيفية وبالفعل كنت أذهب إليه ساعة بعد العصر .
لم يتقاض أجرا بالطبع ..كانوا جيراننا المسيحيين  ..وقتها كان المجتمع المصري بعافيته ...وكانت الوحدة الوطنية حقيقة تقع كل يوم لا شعارات تروى وقت الأزمات..لم يكن ممكنا أن ينقضي صباح دون أن تتبادل أمي الحديث الودي مع أمه .. وكان الود متصلا بين أبي وأبيه .. في هذا الزمن البسيط بدأت أدخل الشقة المطبوعة بالطابع المسيحي لأتلقى دروسي ..وكان هذا يخيفني إلى حد ما ..الشقة صورة طبق الأصل من شقتنا ولكن بالمقلوب !! ، بطريقة عكسية في ترتيب الغرف كأنها انعكاس صورتك في المرآة ..حتى لون الأرضية كان متماثلا ..ولذلك كنت أشعر بعدم ارتياح من قطع الأثاث التي كانت تبدو لي مختلفة وفي غير موضعها ..
...........................
لقاؤنا اليومي لم يشجعني على رفع الكلفة.. كنت من جيل يمتلأ مهابة وإجلالا لمعلميه حتى لو كانوا جيرانا .. .كان ممتلئ القوام مع بداية صلع مبكر لكني لم أكن أتملي ملامحه هيبة وارتباكا ..كنت أعرفه حين أراه لكني غير قادر على وصفه ..
وكان هو الآخر لا يرفع الكلفة لكنه كان بارعا في التدريس ، ولذلك تقدمت في دروس اللغة الفرنسية إلى حد مدهش وأقبلت عليها بحماس شديد على خلفية من البرنامج الموسيقى الذي كان يستمع إليه باستمرار من مذياع صغير يضعه بجواره على المكتب العتيق .
.....................
ذات مرة كنت استفسر عن شيء ما حينما شعرت فجأة أنه ليس معي..رفعت صوتي ولكنه كان يصغي بانتباه إلى أغنية يبثها المذياع فلزمت الصمت..ويبدو أنه قرأ سؤالا صامتا في عيني ومنعتني مهابته من النطق به أو أحس هو بضرورة التبرير فقال لي في انفعال مكتوم : هذه الأغنية كنا نسمعها زمان ...
وصمت ..وسكت أنا الآخر دهشة لملامح التأثر على وجه معلمي ..واستطرد هو قائلا
-- زمان كنا  نحب تلك الأغنية ..أنا وجوزيف و( وتردد قليلا ) ثم قال هامسا وكارولين  أيضا..كنا نلتقي زمان ونسمعها زمان.
أحسست أنه يفلت مني ..كان على مقربة مني ولكنه لم يكن معي ..رحل إلى تلك الليلة التي أثارت شجونه ..وبصوت خفيض راح  يترنم بكلمات لم أتبينها وملأني الخشوع والارتباك ..كنت مراهقا يملك ثروة من الأغاني العاطفية والمشاعر المضطربة ولكن الذكريات بضاعة شحيحة لفتى الخامسة عشر الذي كنته .
وساد صمت مرتبك وشعرت أني فاجأته في موقف غير مناسب لم يكن يجب أن أراه فيه ..لمحة إنسانية جعلتني أشعر أن خلف المعلم الصارم والصلع المبكر قلبا وشجونا ...
ماذا كان اسمها ؟ كارولين؟ لم أكن متأكدا ..كنت مفعما بالارتباك ..ولم يكن واردا أن أفشي سره في يوم من الأيام.
................................
وانتهت الأغنية واسترد بصعوبة ملامحه المهنية الجامدة ..وانتهى هذا الدرس بسرعة ..وانتهت الدروس الخصوصية بسرعة ..وانتهت عطلة الصيف بسرعة ..وذهب العمر بسرعة ..وجرت السنون وكأن وحشا مخيفا يطاردها ولم يعد الفتى المفتون يشتكي من شح الذكريات ..بل من تضخمها ..وصار لكل أغنية حكاية ..تزايد عدد الأغنيات غير المرحب بسماعها لما ارتبطت به من ذكريات حزينة ..
كبر الفتى المفتون وكبر الأستاذ وحيد ..ازداد امتلاء وغطى الشحم طبقات وجهه ( وربما روحه ) وانحسر الشعر تماما عن جانبي رأسه ..وترك مهنة التعليم وعمل في أعمال شتي ..وصرت نادرا ما أراه في حديقة النادي فيحيني وأحييه ..لكني لم أنس قط - رغم السنين الطويلة - لحظة اكتشافي الإنسان فيه.
كارولين؟.....
هل كان هذا - حقا – هو اسمها؟