أسرار المصابيح

الدرب يتزين كعذراء تجلو حسنها في ليلة عرسها …
ثمة حد فاصل بين الظلمة والنور .. الظلام الغامر الكثيف هناك، والنور الباهر هنا تتلألأ به آلاف المصابيح الكهربائية الملونة على جانبي الدرب في نسق بديع مثل ينبوع من النور يتدفق في حلكة الظلام.
…..
استيقظ من نوم الظهيرة فبدا له كل شيء حلوا وبريئا إلى حد لا يصدق..شيء يشبه مذاق السكر في طفولته..لم يكن لديه تفسير واضح لذلك ..لقد أخلد إلى النوم كمألوف عادته بعد يوم حافل ثم انتبه من غفوته فإذا به كمن يولد من جديد..حتى خال أن جميع الآم حياته الماضية كان حلما استيقظ منه لتوه ولعله لو طالع صورته في المرآة لوجد ذلك الطفل الذي كانه منذ عشرات الأعوام..الطفل الذي كان يقفز لأعلى ليرى صورته في مرآة الحمام المرتفعة..
وتساءل في نفسه أية أسرار للروح لا ندري عنها شيئا ؟.هل هطل الغيث في صحرائه الجرداء دون أن يدري ؟ كانت روحه سهولا شاسعة من الجدب والرمال فأي ماء مبارك يحمل السر القدسي أبدلها ورودا تتلون بألف لون ..وتفوح بألف عطر..وتبوح بألف سر . 
ارتدى ثيابه ثم دلف إلى سيارته ومضى يجوب طرقات المدينة دون هدف محدد..
 …………..
لشد ما يصبو إلى الانفراد بنفسه والانطلاق إلى آفاق الكون الرحيب..آفاق لم تخطر على باله هو نفسه من قبل ..وآفاق أغرب منها في داخله ..لم يفطن إلى التحول الذي كان ينشأ في روحه ببطء ..كان الطائر يرقد على البيض في العش ويعتزل أترابه لأيام طوال دون أن يدري هو نفسه علام ..بيد أن السر تكشف له عندما راح الفرخ الوليد يشق الجدار مغمض العينين مزقزقا بالغناء مسبحا بحمد ربه..
لاح له بيت أعز أصدقائه لكنه لم يشعر بحاجة إلى لقائه هذه الليلة..فلتكن ليلة عرسه والمرء لا ينفرد بأصدقائه في هذه الليلة بالذات..يهرع المرء إلى أصدقائه إذا استشعر الوحشة وخشي مغبة الانفراد بنفسه ،فإذا لم يجد صديقا استجدى العطف من   عابر سبيل أو من حيوان أعجم، ولكنه حينما ينسجم مع الكون ومع نفسه ..حينما يفهم بالإلهام لغة الكون ويفك رموزه ويعلم مقاصده فإنه يضن بصفائه أن يعكره الآخرون ..إن البئر يظل صافيا حتى يكثر واردوه..أليس كذلك؟
إنه يخشى أن يلتقي بأحد أصدقائه فيبدأ كلاهما حديث الشكوى الذي لا ينتهي :
- صارت الحياة لا تطاق
-الطريق ساحة قتال وأحيانا قتل
-صخب وجنون 
-انهارت الذمم ومات الضمير ولا عزاء
-جميعهم لصوص .
-انهار صرح التعليم
-كن ذئبا إذا أردت أن تحذر الذئاب
-انظر إلى عري النساء
-ذهبت النخوة وصار الدم عصيرا 
-لا أمل ..لا أمل .
صف طويل من العراة يجلد كل منهم ظهر صاحبه في همة .يتفجر الدم فيغرق جسده وجسد جلاديه في ذات الوقت ..لا نرحم أنفسنا ولا يرحمنا أحد وكأننا أشد الناس لددا ومقتا لذواتنا.
نتشاكى وكـأن هناك عقابا صارما لمن لا يفعل .
………………….
المادة الأولى من قانون العقوبات
"على كل مواطن أن يشكو ويتذمر.. ويعاقب من لا يفعل ذلك بغرامة لا تقل عن مائة جنيه أو الحبس مدة ثلاث سنوات أو بكليهما معا …"
.…..
مضى يجوب الطرقات ويفكر أنه ليس بمنصف ..لا يمل من حديث الشكوى وكأنه نوعية ممتازة فوق البشر .
هذا ليس صحيحا ..ليس صحيحا على الإطلاق .

الأمر ليس كذلك بالنسبة له على الأقل ..ليست لديه مواهب خاصة أو غير خاصة ..إنه ليس ذكيا ولا يجيد الأعمال اليدوية وليس له جلد على العمل الدؤوب ،لا يجيد اللغات وليس بكاسح الشخصية وليس .. وليس  .
إن الأشياء التي لا يجيدها لتكفي أن تجعله مليونيرا لو نال قرشا واحدا على كل منها.
لماذا لا يكون عادلا ويعترف  أنه بالفعل قد نال أكثر مما يستحق ؟
هذه السيارة التي يقودها- مثلا – ألم تكن أغلى امنياته ؟..ألم يكن يرمق حشود السيارات التي تمرق في الطرقات فيغمض عينيه ويحلم بيوم تكون لديه سيارته الصغيرة ليدللها ويعني بها؟ ألا يجد الطعام كل يوم ويجد – وهو الأهم-الشهية لهذا الطعام؟ ألم يجد عملا  ليفلت من طابور العاطلين الذين هم أكثر موهبة وأشد جلدا منه؟.. أليس له أصدقاء مخلصون تسكن إليهم نفسه ؟ هل يذكر الآن كم أنقذه الله من تهلكة كادت أن تزل قدمه ولكن الله سلم ؟
لماذا لا يعترف أنه فتى الأقدار المحظوظ ؟ هل ثمة متعة في الشعور بالاضطهاد والرثاء للنفس؟ لا ريب أنها هناك ولكنها متعة آثمة شريرة.
……………………
كان قد أنفق معظم الليل في تجواله بالسيارة يجوب طرقات المدينة النائمة ويعرف أسرارها ويناجي دروبها حتى أقترب الفجر، فبدأ يتجه إلى منزله.. 
أدهشته تلك الأضواء الساطعة على جانبي الطريق المفضي إلى منزله :مئات .. آلاف.. بل قل عشرات الآلاف من المصابيح الملونة ..والدرب يسبح في هالة فريدة من الأضواء الباهرة ..وتساءل في نفسه كيف لم يلحظها عندما غادر منزله ؟
غريب ذلك .
والأغرب من هو صاحب هذه المصابيح اللانهائية؟وما الهدف منها؟..هل ثمة عرس لأحد أثرياء الجيرة ولكن من يتحمل عبء التكاليف المادية الباهظة؟
هل ينوى أحد كبار المسئولين زيارة الطريق ؟ ولكن لم؟ ولأي هدف؟ دع أنه لا توجد لافتة تدل على ذلك .
ثمة شيء لا يفهمه.
………………….
غادر سيارته ومضى صوب منزله وهو يتلفت حوله  في دهشة وارتاحت عيناه على شيخ يرتدي ثيابا بيضاء ويتجه صوب المسجد القريب ويرنو إليه مبتسما.
توقف وتساءل عن سر المصابيح؟
تبسم الشيخ قائلا 
-لا سر هناك.. إنها لك ..كلها لك
قال في دهشة عارمة...
-ولكن علام هذه الليلة بالذات؟ 
قال الشيخ وهو يربت على كتفه في مودة

-لقد كانت هناك دائما.. لكنك لم ترها إلا الليلة..