أصل أنا اتبهدلت أوي

الإسكندرية! صباح شتائي مشمس.

خرج متأنقا من بيته كعادته، يفوح منه عطره. ما أروع الحياة حين تتجمل! السحب تتوالى في السماء الزرقاء، والبحر يبدو لجة زرقاء تغوي بالتأمل! يقود سيارته اللامعة، سابحا في بحر من الأنغام، منتشيا بالشباب والجمال وروعة الدنيا.
صفّ سيارته أمام كلية طب إسكندرية! في الطريق إلى الكلية شاهد كهلا في ثياب رثة، يستوقفه للتسول. كانت روحه المعنوية مرتفعة، ولذلك جاد عليه بما تيسر.
تلقاه زملاؤه بالترحيب والابتسامات. وتبودلت نكات أضحكتهم كثيرا. أنهى ما جاء من أجله، ثم شرع يسير نحو بوابة الخروج. وفي ذهنه عشرات التفاصيل الدقيقة لما سوف يفعله اليوم! 
وفجأة قطع حبل أفكاره كهل يقترب. أدرك من هيئته العامة أنه متسول الصباح! شعر بالحنق! أيريد أن يأخذ منه في الذهاب والإياب؟ وفجأة دقّق في ملامحه فهتف مذهولا دون وعي، وكأنه يصرخ:" الأستاذ محمد أيوب".
.............................
عشرون عاما إلى الوراء. 
طابور الصباح. النسمات الباردة. حصص اللغة العربية والانجليزية، ودروس الكيمياء والفيزياء.
المدرسة منضبطة وكأنها ساعة سويسرية متقنة الصنع! وأستاذ محمد أيوب، مدير المدرسة، يقف مرتديا سترته الكاملة، يخطب في الميكروفون بقوة. يبث فيهم الحماسة.. التضحية للوطن.. استذكار الدروس بجد.. تبجيل المعلم.. المستقبل المجهول لم يعد مجهولا طالما يؤكد أنه سيكون زاخرا بكل مفيد. موجها لخدمة الوطن، الذي يستحق منا أن نريق من أجله دماءنا، لا أن نذاكر فحسب. أستاذ محمد أيوب.
................
معشوق الطلبة وقتها. يتهامس المعلمون بصوت يملؤه التهيب عن ذلك الناظر الناسك، الذي رفض الترقي في مناصب أعلى، لمجرد أن يظل حافظا لتقاليد تلك المدرسة التي وهبها عمره، ويتباهى أنها تهدي محافظة الإسكندرية الأوائل في كل عام. يتحدث بقوة. يتحدث بصدق. وهذه القلوب البكر، التي تشبه الحمائم البيضاء، المكنونة في ضلوع هؤلاء المراهقين تشعر بالصدق بحساسية مرهفة، قبل أن تلوثها غوايات الأيام.
......................
توقف الكهل ناظرا في ذهول إلى ذلك الشاب الأنيق الذي صرخ باسمه في زحام الطريق. شاب أو شابان التفتا بسبب قوة الصيحة لكنهما واصلا طريقها في غير اهتمام. قال في حرارة ذكرته بأيام الصبا:
" أستاذ محمد أيوب. أنا واحد من تلاميذك الكثيرين". 
تأمله الأستاذ محمد أيوب في عناية، وبدا أن هيئته الأنيقة لفتت انتباهه، فأردف في تودد:" اسمي دكتور ياسر. أعمل الآن طبيبا، وكله بفضل حضرتك". 
شاعت على ملامح الوجه المهدم ابتسامة مرتبكة، وكأنه لا يصدق ما يسمعه. تأمل الدكتور ياسر وجهه في أسى، ذقنه غير الحليقة، هيئته غير المهندمة، ثيابه المهملة التي لم تعرف الكواء منذ مدة طويلة. وفي يده كيس يحمل أرغفة العيش خارجا من زحام الفرن المجاور. رباه! كيف تدهورت أحواله إلى هذا الحد؟ لذلك اختلط عليه الأمر، وظنه متسول الصباح!

الفاقة واضحة تماما عليه! ولكن ماذا يفعل؟ أيمنحه النقود كمتسول؟ لا يستطيع! رباه ماذا يفعل في هذا الموقف الصعب! 
وفجأة ترقرقت الدموع على وجنتيه الذابلتين. هبط قلبه في قدميه. صرخ في لوعة:" أستاذ محمد. حضرتك بتبكي ليه؟".
رد بصوت خافت متحشرج:" أصل أنا اتبهدلت أوي".
وهكذا ومضت في ذهن الدكتور ياسر الحقيقة بكل قسوتها. المعاش الضئيل! الغلاء! كآبة الفراغ! تدهور الوطن! آماله المتهدمة! وكل ما خطب من أجله في الإذاعة المدرسية قد تبين له -بالدليل القاطع- أنه أوهام!
..................
وكانت جموع السائرين تتدفق في الطريق المزدحم، دون أن تلقي إليه بالا، تسير في غايتها، تاركة إياه للمجهول.