أستاذ كامل

أعترف : أغلب الناس الذين وضعتهم الأقدار في طريقي كانوا طيبين ورائعين ..أعتقد أنني أسوأ شخص صادفته في حياتي ..لا يوجد عندي تفسير واضح ..إما أن تكون الحياة رائعة جدا أو أنني محظوظ بشكل خاص ..ربما دعوة مستجابة أو شيء ما في ملامحي يدفع الآخرين إلى بذل الحنان وبسط الحماية ، لا أعرف هذا الشيء لكني بالتأكيد لا أريده أن يذهب .


وإذا كنت لا تصدقني فدعني أحكي لك عن رجل رائع صادفته منذ سنوات طويلة جدا ..لم تستمر علاقاتنا إلا فترة محدودة من عمري لكنها محفورة في أعماقي ..ومن حين لآخر أذكر هذا الرجل النبيل وأدعو له من أعماق قلبي .
...........
ديسمبر 1990..كانت الطائرة تحملني إلى جدة.. بالنسبة لي كان صيف عام 1990 حافلا  ..انتهيت من فترة طبيب مقيم وحصلت على درجة الماجستير وتم تعييني عضوا بهيئة التدريس بالكلية بدرجة ( مدرس مساعد ) ..في هذا الصيف أيضا أديت فريضة الحج لأول مرة ..وبرغم المرض والإرهاق غير العادي فقد وقعت في غرام الكعبة وأصبحت أسيرا لتلك الحركة الدائرية حولها مثلما تطوف الألكترونات حول نواة الذرة وتسبح الأرض حول أمها الشمس وتدور حركة الساعة على معصمك دون أن تنتبه أنها رحلة العمر !!.

دعاء مأثور يدعوه كل الحجاج لحظة دخولهم المدينة المقدسة ..جبالها الشامخة ودروبها الصاعدة وبيوتها العتيقة ( اللهم اجعل لنا بمكة قرارا وارزقنا فيها رزقا حلالا ) ..لو كنت أعرف أن أبواب السماء مفتوحة في تلك اللحظة لدعوت بأشياء كثيرة جدا...من يدري !!!

لذلك كانت فرحتي عارمة جدا حينما وجدت مكتب التوظيف السعودي يتصل بي في خريف هذا العام لأذهب للعمل في منطقة مكة المكرمة .. لم أكن أعلم بالتحديد هل كانت فرحتي باستجابة الدعاء أم بذلك الشرف الرفيع : أن أصبح – ولو لمدة محدودة – واحدا من سكان المدينة المقدسة !!.
...............................
كنت في الثامنة والعشرين من العمر ..في زهرة شبابي وزهوها ..ميسور الحال إلى حد ما .. .كثير الأصدقاء ..أختنق من وفرة الزهور في حديقة أيامي .. وبرغم ذلك لم أكن سعيدا .. أو ربما كنت سعيدا جدا دون أن أدري .. كانت المشاعر تجيش في صدري والأفكار تصطخب في عقلي ورحلة العمر تبدو بلا نهاية ..ووجداني مزدحم بأبطال الأعمال الأدبية التي صاغها عشرات من قمم الأدب العالمي ..وهج مقدس في روحي ، وبشكل مبهم كنت أشعر أنني منذور للحب ، عاشق بالفطرة ، صوفي الاتجاه .. 
كنت حائرا لا أعرف ماذا أريد ولم أكن أعلم – بطبيعة الحال - أن العام المقبل سيكون شديد الوطأة يحفر أخاديد في كياني ووجداني وعقلي وذكرياتي.
.........................
كانت مشاعري في الطائرة محايدة تماما .. يخالطها الكثير من القلق والترقب ..بمجرد وصولي مكة المكرمة أديت العمرة ..وفي الصباح توجهت لمديرية الشئون الصحية ..وهناك أخبرونا أننا سنلتحق بدورة تدريبية على المهام المنوطة بنا ..كان سكني بفندق ملاصق للحرم ..وأديت هناك كل صلاة ممكنة عدا وقت التدريب ..لم أكن أنام تقريبا إلا ساعات قليلة جدا فلم يكن ممكنا أن أسمع نداء صلاة الفجر يتردد من المسجد الحرام ثم لا ألبي ..بعدها يكون الوقت قد حان للتدريب ، ثم العودة للفندق وصلاة المغرب والعشاء والتجول في الطرقات المكية التي عشقتها ثم النوم منهارا من الإرهاق والتعب.
.............................
وحينما حان وقت توزيعنا حدثت مفاجأة مذهلة بالنسبة لي ..قالوا أني سأعمل في  مكان يدعى (أم الجرم ) في الطريق بين مكة والمدينة ..لم أكن أعلم بالطبع أن مكة غير منطقة مكة التي تمتد مئات الأميال ..وبلغ ذعري منتهاه حينما وجدتهم يهنئوني لأن بها كهرباء ..ولم افهم ما البطولة في ذلك ؟ ..لكني أمتلئت تشاؤما وأحسست أن ما هو قادم لن يكون سارا  بالتأكيد..
وسيلة الذهاب لأم الجرم بسيطة جدا : سيارة الإسعاف الخاصة بمديرية الشئون الصحية ..هذا منطقي لو تذكرت أنه خارج الخريطة أصلا ولا يوجد لها مواصلات أساسا ..وهكذا وجدتني أركب سيارة الإسعاف المخيفة التي لا تكف عن الولولة – برغم أنه لا يوجد مريض بداخلها – في طريقنا عبر الجبال الوعرة إلى أم الجرم . 
أعلم أن الإسلام حرم الشؤم والطيرة ..لكني – أعترف – كنت ممتعضا من اسمها الذي لا يوحي بكثير راحة ..هل اشتق اسمها من الإجرام ؟ أم هو محض مصادفة !! .
أم الجرم لا تقع بالظبط على طريق مكة المدينة ..ولكن يجب أن تسلك الطريق القديم حتى عسقلان ثم تتجه في مدقات جبلية مسافة تبلغ ثلاثين كيلو لتصل إلى أم الجرم تلك ............................
كانت المرة الأولى التي اقتحم فيها الصحراء ..والرمال والكثبان والمدقات الجبلية ولم أكن أفهم تماما ماذا يحدث لي ..تملكني الرعب حينما توقفت السيارة فوجدتني في بقعة صحراوية بها بعض البيوت البدوية وقالوا لي أن تلك هي أم الجرم.
تلفزيون؟ هل تمزح ؟ طبعا لا يوجد أي إرسال تلفزيوني يصل إلى تلك البقعة الصحراوية المنغزلة.
إنها صحراء موحشة وبقعة غريبة ..نزلت مذهولا ووجدت من يرحب بي ويستضيفني ..كان فني المعمل ..مصري الجنسية رجل تقي ورع كريم كما عرفته فيما بعد ووجدت أقيم في داره أنا الذي أكره حد الموت أي قيد لي على حريتي الشخصية
لا ادري كيف سرقني النعاس لأستيقظ في السابعة صباحا ليبدأ يوم جديد ..
...........................
أنا أبن المدينة ..لم أحيا قط في الريف ولم أعرف أي وجه لوعورة الحياة ..فيما بعد قال لي رجل مصري بوهيمي من الأسكندرية ( يا دكتور أيمن ..مشكلتك أنك أبن ناس وعشت مرفها لذلك تحطمت بسهولة شديدة عند أول أختبار جدي في حياتك ..أما أنا فعشت حياة ضيقة جدا لذلك وجدت حياتي هنا رفاهية بالمقارنة لما قبلها )
تعداد أم الجرم آلاف قليلة شأنها شأن مئات القرى المتناثرة في البادية ...أما فلماذا أختاروا المقام في تلك البقعة المنعزلة ولماذا وجع القلب ؟ ..أغلب الظن أنه ميراث الأجداد والعادات والتقاليد ..وبرغم ضآلة عدد السكان فقد فوجئت في الفترة الصباحية بأكثر من مائة مريض يتوافدون على العيادة الطبية ..بينما أنا لم أتوازن نفسيا وافهم ماذا يحدث لي ؟..وعرفت فيما بعد أن هؤلاء المساكين لا ترفيه أمامهم في تلك البقعة المنعزلة إلا زيارة الطبيب ونظرا لكوني طبيبا جديدا فقد أرادوا المتعة والمؤانسة والمشاهدة.

وكنت في موقف غريب جدا : في داخلي عواء ولطم على الصدغين وعدم تصديق واشتياق للوطن وعدم فهم في الوقت الذي لم أكن أملك ترف الأستسلام للحزن وأمامي عشرات المرضى البدويين الذي لا أفهم كلمة مما يقولون.
وأنتهى اليوم وانتهيت معه وأغرقني حزن عميق ودهشة لا تريد التصديق.
في اليوم التالي شعرت بالاختناق ...لكن كان يخفف عني أنه الخميس وكنت أنوي الزيارة للمدينة المنورة ..قالوا لي أن الذهاب سهل ..اي سيارة تغادر القرية ستحملني لجدة وهناك أركب للمدينة.
وماذا عن العودة ؟
قالوا لي الأمر سهل وميسور وإلا فكيف نعيش ؟ ..وجدت منطقهم معقولا ..كل ما علي أن أقول لسائق السيارة عند العودة ان ينزلني عند خليص (؟) وهناك أقف عند الطريق الجانبي لأركب أول سيارة متجهة للقرية ..
سهل جدا ..أليس كذلك؟
.......................
وذهبت للمدينة المنورة ..وشكوت للرسول حالي ..وعدت يوم الجمعة وقلت للسائق أريد النزول عند خليص فقال لي ( حياك الله ).
وطيلة الطريق اتساءل هل سيتذكر السائق ؟ ..وقلت له فتوقف فجأة وقال لي أنزل ..وسألته هل هذا هو الموضع فقال نعم.
نزلت الطريق أبحث عن أي علامة فلم أجد ..والسيارات تمرق حولي بسرعة جنونية ..وأسقط في يدي ,,وقلت في نفسي سوف أظل هنا حتى الموت لتدفنني رمال الصحراء
لماذا خرجت من بلدي ؟ ..رحت اسأل نفسي في دهشة وذهول ؟ ..لماذا سافرت من الأساس وأنا لست بحاجة للمال ..جعلوني فانجعلت ..كلهم قال لي أن الذهاب شئ جيد فذهبت .. فلماذا المرمطة وقلة القيمة والضياع؟
وبدأ الليل يهبط وأنا أقف لا أعرف هل انا على الطريق الصحيح أم لا؟ ..وما نهاية هذا الكابوس الذي أحياه وفجأة تدخلت العناية السماوية كما كانت تتدخل معي في كل المحن ووجدت سيارة تقف لي وانسان لا اعرفه يقول لي ( أركب يا دكتور ) وركبت وتبين انه أحد المقيمين بأم الجرم شاهدني فحملني معه
.................
استقبلني مضيفي وارتفع صوت أذان العشاء فذهبنا لمسجد القرية للصلاة ..
وخرجت بعد الصلاة مع الرجل الصالح الطيب وفجأة وجدتني في مكان غريب لا يمت لوطني بصلة ..بعيد كل البعد عن حياتي وخصوصيتي ..يبدو لي العام القادم مثل زمن لا نهائي يستحيل أن يمر ..أسقط في يدي وفجأة وجدت الدموع تنهمر من عيوني وكأنه مطر منهمر ..ونظر لي مضيفي في ذهول غير مصدق ما يراه ..وأسقط في يده ولم يدر ماذا يقول..وظهر عليه الإحراح والذهول وقلة الحيلة وحاول مواساتي
في الصباح كنت أكشف على المرضى حينما أتخذت قراري في أقل من ثانية .زلن أبقى هنا تحت أي ظرف ..سأعود إلى وطني ..وسألت عن سيارة ستغادر القرية إلى مكة المكرمة ..ووجدت سيارة فركبتها وسط ذهول الجميع.

هناك قلت لهم في تصميم أني لن أعمل في هذا المكان مهما حدث .لقد سافرت على أن أعمل بمكة المكرمة وليس أي مكان آخر وعبثا ما حاولوا إفهامي أنني بالفعل في منطقة مكة المكرمة لكني كنت غير مستعد للمناقشة وطلبت العودة لوطني أو العمل بمكة المكرمة .
وقالوا لي رح الحرم وتعال غدا تكون قد هدئت قليلا وبالفعل عدت بالغد مصمما على العودة لمصر فقالوا لي أنني يجب أن أدفع غرامة 3 شهور ..فوافقت ..وراح أحدهم يهدئ من روعي ويعدني بالنقل من مكة بعد شهرين وبدأت أهدأ قليلا مع هذا الوعد ..وقبلت العودة لأم الجرم تلك ..والوسيلة كانت كالعادة سيارة الأسعاف
.......................
وعدت في الصباح التالي لأم الجرم حيث استقبلني مضيفي بإشفاق ..وبدأت العمل وفجأة تركت كل شئ ..حقائبي ومرضاي وملابسي وركبت أول سيارة لمكة فذهبت لمديرية الشئون الصحية أعلنهم أني غير قادر على العمل في تلك الأنحاء كائنا ما كان ..وأسودت وجوههم بمجرد رؤياي ..وأدركوا أنه لا فائدة معي فطلبوا مني الأنتظار حتى يبتوا في الأمر.
سرت في طرقات مكة وأنا أهتف من أعماقي : مكة ..أيتها المدينة المباركة ..ألا تتسع بيوتك لواحد آخر فقط ؟