أشباح عشاق

اختفت السيدة نادية فجأة، وكأنما أنشق فلق في الوجود فابتلعها. قيل في تفسير اختفائها أشياء كثيرة: إنها غضبت من أبنائها بعد بيع البيت فتركتهم وهامت في الطرقات! وقيل بل أصابها خرف الشيخوخة فخرجت وعجزت أن تعود! وقيل إن الحزن أنهكها بعد وفاة زوجها الأستاذ مراد! 
..............
طويل كعمود نور. أبيض الشعر وكأنما اعتمر قطعة من السحاب. طفولى الملامح برغم أنه تجاوز السبعين. في عينيه شغف ودهشة وحب للحياة. أما السيدة نادية، فقد اعتصمت بوقار الأنوثة، وسلمت قيادها بالكامل لزوجها الذي يعرف كل الإجابات، والأهم أنه قادر على شكم الأولاد، برغم حبه الفطري لهم، عندما راحوا يطالبونه ببيع البيت الواسع القديم. كان رد الأستاذ مراد قاطعا بالرفض. هذا هو البيت الذي عاش به والده، وترعرعت فيه طفولته، ولن يُباع طالما هو، والسيدة نادية من بعده، على قيد الحياة.
وفي كل مرة ينصرف الأبناء غاضبين. وتنكفأ الأم على أحزانها، لكنها تعتصم برجولة زوجها الذي سلمته قيادها منذ عهد بعيد.
.............
مضى أكثر من نصف قرن على زواج مراد ونادية. كانت أول حظه وكان أول حظها. كلاهما ورقة بيضاء لم يمسها قلم. وتلقاها مراد بالشغف والحيوية والمفاجئات. تعرفا معا على حدائق جسديهما، وذاقا من اللذة الحلال ما جعله لا يهتم بغيرها من النساء وكأنما لا توجد امرأة في الكون غيرها. وكم شهد هذا البيت من أحضان وقبلات، ومارس معها الغرام في كل ركن على حدة، بل ورسمها عارية على حائط غرفة النوم وسط خفرها وحيائها. وعندما بدأ الأولاد يكبرون توسلت إليه أن يمحوا الصورة، لكنه رفض وزحزح الدولاب بحيث يخفيها تماما، شاهدة من خلف الدولاب الغليظ المعتم، على رواء شبابها، حينما كانت، وما زالت في عينيه، فتنة مجسدة.
....................
لم يفتر حبه طيلة السنين. كان لديه هذا الشغف النادر الذي يجعله يهتم بامرأة واحدة ولا يرى سواها، موحد القلب لم يعرف التشويش. وآنست نادية إلى كنفه، وإن كان شيء ينغص عليها سكينتها، كلما تذكرته من آن لآخر. ماذا –بعد عمر طويل- حين يتخلص الأولاد من العفش ويشاهدوا الصورة! ثم ما لبثت أن نسيت اللوحة- فيما نست- بعد طوفان الحزن الذي أعقب وفاة مراد.
............
كانت تدرك ما هو آت. الآن صارت وحيدة وحتما سيبيع الأولاد البيت. في الحقيقة لم يكونوا أنانيين تماما. ولو وضعت نفسك مكانهم قبل أن تحكم عليهم، لوجدت أنه عندما يكون لديك بيت يُقيّم بالملايين، والأجور كما تعلم والغلاء كما ترى! ماذا يكون أمامهم سوى أن تنصرف مطامحهم إلى بيع هذا البيت، وإعطاء كل ابن نصيبه، ليشق طريقه في الحياة. لم يفهم الأولاد قط أن هذا البيت هو الشاهد الحي لقصة الحب العظيم. 
تم بيع البيت. وتزحزح الدولاب عن موضعه القديم. وانكشفت الصورة العارية القديمة يعلوها غبار السنين! رمقها الأبن الأكبر في وجوم ثم أسرع فأغلق الباب ولم يسترح له بال حتى لطخ الجدار بالطلاء حامدا الله أنه وحده من شاهدها! 
....................
في اليوم نفسه، اختفت السيدة نادية فجأة. وفشلت كل محاولاتهم في العثور عليها. ثم بدأت حكايات متناثرة يتناقلها الخفير المشرف على حراسة البرج الذي أقيم في مكان البيت، بأن شبحين يظهران فجأة، بهالتين من نور! أحدهما طويل بشكل لافت، والأخرى مكتملة الأنوثة، وهما يركضان خلف بعضهما البعض، كعاشقين مرحين، والأغرب أنهما كانا يمارسان الحب في مشاهد ملتهبة، وكأنهما عروسين جديدين في ليلة الزفاف.