أجازة لظروف خاصة

القلوب أصداف مكنونة على لآلئها لا يدرى أحد ما بداخلها! اندهش الجميع حين تقدم الدكتور أحمد بطلب إجازة خاصة بلا سبب ظاهر، لا مرض، لا إعارة للخارج، لا سفر لحضور مؤتمرات. لم يدر أحد أن السبب الحقيقى هو وقوعه فى الحب.
بالنسبة إليه لم يكن وقوعه فى الحب بالخبر السعيد على الإطلاق. الحب الجديد فى ربيع العمر نعمة، وفى خريفه نقمة، كان قد جاوز منتصف العمر، وامتلأ فوداه بالشعر الأبيض، وامتزجت نظرته الصافية بحزن وتسليم صامت، وكأنه قد عرف نصيبه من الحياة. دكتور أحمد مشهور لطلبة الكلية.. عزوبيته، ودماثة خلقه، وقابليته للصمت كانت من أسباب شعبيته، خاصة حينما تولى ريادة بعض الأسر الأدبية. كان كثير القراءة، غزير المعرفة، وإن لم يكن يتباهى بذلك، لكن الكتب كانت سميره فى بيته الصامت، وأنيسه فى ليالى الشتاء.
حتى ذلك الصباح، كان كل شىء يسير كالمعتاد، لم يكن قد عرف الحب برغم كثرة من مر بهن من النساء. دماثته كانت تغرى سيدات الكلية بالبحث له عن عروس! وكان فى وقت ما صادق العزم فى ذلك، لكن لم يحدث نصيب، وفجأة وجد نفسه فى الأربعين! أدهشه الرقم فى البداية، ثم تآلف مع وضعه ولم يعد يسعى لتغييره، خاصة أنه كان يرى زملاءه المتزوجين يشتكون مر الشكوى، قد بدا عليهم السأم وانطفأ الوهج القديم، وراحت عيونهم تعكس فتوراً وخمولاً، ولم يكن يرى فى مثل تلك الحياة ما يجعله يتحسر على فواتها، أو يستحثه على التغيير.
كان خالى البال من الحب وشجونه، رتّب نفسه أن يقضى ما تبقى من حياته فى هدوء، حتى شاهدها، واحدة بين طالبات الدفعة الجديدة جئن من أجل ريادته لأسرة أدبية! من بين حشد الفتيات لم يبصر سواها، برغم أنها لم تتصدر الجمع ولا تحدثت على الإطلاق.
دخلت عليه كالنهار فأضاءت حياته، شعرها الطويل الحالك، بشرتها السابحة فى فيض الضوء، شبابها الذى ينطق بالنضارة، أنفها الصغير الجميل، غشيه من الاضطراب ما غشيه، ولأول مرة يرتعش القلم بين أصابعه، ويحتبس الكلام فى فمه، ومن آن لآخر يختلس النظر إليها بين البنات، كانت هى! تلك التى انتظرها طيلة حياته! جاءته بعد فوات الأوان.
من عجبٍ أنه قيّم الأمر بنظرة واحدة، وكأنه عراف ينظر إلى المستقبل! شاهدها على البلورة السحرية تأتى إلى مكتبه بسبب المجلة، شاهدها تهجم عليه بشبابها الناضر وفتنتها الطاغية، وشاهد نفسه كاللعبة بين يديها، يضطرب إذا غابت، ويفرح إذا جاءت، كتلميذ فى المرحلة الإعدادية يقع فى الحب لأول مرة.
كان يعرف أنها مسألة وقت وتفضحه عيناه وتشيع حكايته على كل لسان، لم يقبل لنفسه المهانة أو يجعل من نفسه حكاية مسلية يتناقلها الطلاب، الأستاذ الجامعى الذى وقع فى غرام طالبة فى عمر بناته، بكل ما فى ذلك من مهانة وصغار!
لذلك لم يتردد لحظة فى اتخاذ قراره. وسط استغراب الجميع تقدم بطلب إجازة، حتى تتخرج هى أو يُشفى من الحب،أيهما أقرب.