أشياؤنا القديمة

كان أول ما تبادر لذهنه حين عثر على هذا البنطلون ذي الدرجة النادرة من اللون الأزرق في خازنة ثيابه أن محل الكواء قد أرسله بالخطأ، لكن تبين أن ذلك غير صحيح. الومضة جاءته في مساء نفس الليلة وهو موشك على النوم، لقد كان لديه هذا البنطلون بالفعل منذ عشر سنوات. وكان يحبه كثيرا لدرجة لونه الفريدة، وحزن حين تمزق بسبب مسمار غادر، رفاه ثم أعطاه للبواب.
نهض من فراشه، تحسس البنطلون في الظلام حتى عثر على موضع الإصلاح. إنه هو! نفس البنطلون الذي أعطاه للبواب فكيف عاد إليه؟. ارتدى البنطلون فغمرته موجة دافئة من الذكريات. غريب أن يعود البنطلون إلى عالمه، وتعود معه ذكريات المرحلة التي ارتداه بها. الأماكن التي كان يذهب إليها، والأمور التي كانت تشغل باله، والزملاء الذين كان يشاهدهم. حتى عبارات المزاح تذكّرها، فهل تَعلق الذكريات بالملابس وتتسلل في نسيجها، وكأنه بصمة الزمان نستعيدها في غير الأوان!؟.
.........
بعد أسبوع ظهرت بذلة بنية اللون في دولاب ملابسه. كان على استعداد للفهم هذه المرة، وبغزيرة غامضة لم يخبر أحدا بالأمر. تعلم أن هذا هو سره الخاص الذي يجب أن يحتفظ به. تحسس السترة في شح البخيل الضنين بأغلى كنوزه، ثم راح يرتديها رغم أنها ضاقت عليه كثيرا. ارتدى البذلة البنية وارتدى معها أجمل ذكرياته. حتى العطر الذي كان يستخدمه استنشقه. كان وقتها في عنفوان شبابه، يهتم بمظهره ويتأنق في ثيابه. يتجنب اليوم أن يتطلع في المرآة كيلا يشاهد خصلات شعره الأبيض. كانت لديه اهتمامات أخرى وأفكار مختلفة عما يعتقده اليوم. أليس عجيبا أننا نُولد في رحلة العمر عدة مرات!.
..............
أيام توالت وظهر البنطلون الجينز ذي الجيب الكبير. ابتسم في حنين وهو يتذكر أيام الجامعة، ليالي الامتحانات العصيبة، أغاني زمان الحبيبة، مباريات الكرة الملتهبة، قصاصات الأشعار. راح يتذكر وجوه زملائه التي لم يشاهدها منذ ثلاثين عاما. بالتأكيد سيرتاع لو شاهدها اليوم. من الأفضل أن تبقى محتفظة بصباها ونضارتها في خزانة الذكريات.
تأثره الحقيقي كان لحظة أن شاهد قميصه المشجر الذي كان يرتديه وعمره عشر سنوات. دفن وجهه في القميص ليستنشق عبير الطفولة. وكأنها ذكرى الأمس فقط!. كان نحيلا وصغيرا ومفعما بالبراءة. يذكر النظارة الطفولية التي كان يرتديها آنذاك. لسنين طويلة ظل يبحث عن شبيه لهذه النظارة. آه من يأخذ كل ما نملك ويعيد لنا يوما من أيام الطفولة!.
............
ظهرت الكافولة في الدولاب فابتسم في سرور. لا يذكر هذه المرحلة من حياته ولكنه كان بالتأكيد نضرا ولعوبا مثل أي وليد آخر. وكانت أمه تستقبل الأيام بفرح، وتغرقه بالقبلات. 
ظهرت الكافولة فى الدولاب فابتسم فى سرور .. تلك القطعة المربعة من القماش الأبيض النقي التي نستقبل بها أيام حياتنا .. وضعها على كفه فغطته بالكاد .. تعجب مبتسماً كيف كانت تلف جسده كاملاً يوماً ما .. أعادها إلى الدولاب مرة أخرى وقد إمتلأ بالشجن .. لكنها وبخلاف ملابس الذكريات الأخرى راحت تكبر يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة حتى صارت قادرة على أن تلف جسده بالكامل مرة أخرى .... تماماً
     
الحمد لله. الآن يكتشف أن حياته كانت سعيدة ومعظم الأشياء تُذكّره بالفرح! فيا أشياؤنا القديمة بالله عليك لا تضيعي، بل أمكثي وديعة في خازنة الزمان، تظهرين لنا في الوقت المناسب، حين نتسول ذكرى من فرح، ظلاً من حنان.