أستاذ عبد الخالق

لو كنت من سكان هذا الحى فلن تستغرب المشهد التالى: رجل متقدم فى العمر، له مشية شبه عسكرية، طويل القامة، خطه المشيب، وتبدو عليه الأهمية ورفعة الشأن يمشى مع رجل عامى، بسيط الثياب، يصغى لكل ما يقوله بعناية وقد بدت عليه ملامح الانبهار

يعرف سكان هذا الحى الحكاية. لكن أحداً لا يتكلم فى تواطؤ خفى. مع أن الأستاذ عبدالخالق فاقد الأهمية تماماً، إلا أن شعوراً من الإشفاق حال دون إهانته، أو حتى تحذير الضحايا منه

اعتاد سكان البناية وفود البعض إلى المكتب الحكومى الكئيب الكائن فى الدور الأرضى. فى البدء كانت أعداد المترددين قليلة ومتفرقة. ولكن كان مجرد النظر إلى وجوههم المذعورة يفسد صباحهم. لا أحد يذهب إلى هذا المكان إلا لمصيبة سوف تقع على رأسه. يدخلون صامتين كأن على رؤوسهم الطير، يحبسون الأنفاس من فرط الفزع، يشى شحوب وجوههم بأنهم لم يناموا طيلة الليل، خوفاً من شبح إفلاس يتهددهم، وخراب بيوت قد صار وشيكاً

وقتها يظهر الأستاذ عبدالخالق مرتدياً سترته الكاملة ورباط عنق مربوطا بعناية. يختال بين الناس بقامته الطويلة وبنيانه المتين وشيخوخته الوقورة. يمشى وسط المواطنين التعساء رافعاً ذقنه فى مشية رياضية لم ينل منها مرور العمر وتتابع السنين. بشاربه الفضى ونظرته الآمرة وسيادته الطبيعية. يبدو كمن جاء مصادفة، مدققاً فى وجوه المذعورين لينتقى أحدهم. يُحدثه من فوق كتفه كأنما يتنازل. يبدأ الحديث بسؤاله عن المشكلة. وهناك دائماً مشكلة

لا أحد يأتى إلى هذا المكان الكئيب إلا لو كانت هناك مشكلة. يتلقف المسكين الإشارة كما يتلقف الظمآن كوب الماء. يشجعه سيماء السيادة والنفوذ البين. يمشى بجوار قامته العملاقة متطامنا يحكى له كيف بدأت المشكلة. يحكى التفاصيل المملة. يخرج أوراقاً تقع دائما من أصابعه المرتعشة. وفى لحظة ما يقاطعه الرجل المهم بعصبية قائلا إن التفاصيل لا تهم. إذ تكفى مكالمة منه، أو كارت توصية صغير لحل المشكلة. تلمع عينا الرجل العجوز. يبدأ حكاياته. يسير بخطوات واسعة والرجل يجدّ خلفه. لمدة ساعات قادمة لا يتوقف عن الكلام

يحكى عن نفوذه السابق. عمن يعرف من المسؤولين من أصحاب الأسماء المشهورة. يذكر أسماءهم عرضاً وكأنه يلقاهم كل يوم، مهونا من شأنهم، منوها بأفضاله عليهم التى جعلتهم فى هذا المنصب

والذى كان الضحايا يجهلونه، أن الأستاذ عبدالخالق لم يكن يوما موظفا مهما، حتى أثناء خدمته الحكومية. بل كان مجرد موظف منسى من مظاليم الحكومة. لكن هيئته الفخمة ظلمته، إذا كان التباين صارخا بين هيبة هيئته ووظيفته المتواضعة. وزادت المفارقة أنه كان يتمتع بشخصية قوية، تدفعه إلى طلب السيطرة، دون أن يملك أدواتها

عاش تعيساً طيلة عمره باحثاً عن أهمية لم يمتلكها. حتى وصل إلى هذه الحيلة بمحض المصادفة. أن يذهب إلى هذا المكتب الحكومى متظاهراً بالأهمية. وبعد أن يشبع رغبته فى التعالى يعود إلى بيته شاعراً بالارتياح! دون أن تخسر الضحية بالطبع سوى بضع ساعات من يومها ضاعت عبثاً وآمال لم تتحقق!! ربما تتحقق فى اليوم التالى