الذرة الأولى التي منها بدأ خلق العالم

كنت جالسا في المسجد شارد الذهن كالعادة. لا أصغي مطلقا لخطيب الجمعة، لولا أنه في سياق الخطبة، تلا هذه الآية الكريمة:" إن المتقين في جنات ونَهَر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر".
انتبهت فجأة وكأنني أسمعها لأول مرة. استوقفتني بلاغة التركيب في:" مقعد صدق" واستوقفني أيضا "مليك مقتدر". تجسدت أمامي المعاني كلها، وقد أقشعر بدني، من تلك الكثافة غير العادية في التعبيرات القرآنية، وتذكرت لحظتها الذرة الأولى التي منها بدأ خلق العالم.
................ 
يُقال –والعهدة على العلماء- أن نظرية الانفجار الكبير في تفسير هذا الكون، تفترض وجود ذرة واحدة، غير متناهية الكثافة، تشتمل على هذا الكون الذي نعرفه من مجرات وشموس وأقمار وكواكب. ثم بدأ الانفجار الكبير فتشرذمت هذه الذرة الأولى إلى هذا الكون الذي نعرفه.
يقولون في تفسير هذا الشيء العجيب أن هذه الذرة لم تكن تشتمل على أي فراغ. كانت محتشدة بكل معنى الكلمة. وتزول غرابة هذا التفسير حين نعلم أن التركيب الذري يشتمل على فراغ هائل. كلنا نعرف أن الذرة مكونة من نواة والكترونات تدور في مدارات حول أمها النواة. لكن ما لا نعرفه هو الفراغ السحيق في تركيب هذه الذرة. هو شيء قريب من تكوين المجموعة الشمسية. فكما أن الشمس أكبر –بما لا يقاس- من أبنائها الكواكب، فكذلك النواة بالنسبة للالكترونات العاشقة التي تطوف حولها. والأعجب أن نسبة الفراغ في النموذجين توشك أن تكون واحدة. فالفراغ السحيق بين الكواكب أشبه بالفراغ السحيق بين المدارات. بحيث أن مركبة فضاء إذا انطلقت من إحدى الالكترونات –بدون توجيه- فإنها تتوه للأبد في فراغ الذرة اللانهائي. 
وهذا ما يعطي النظرية مصداقية. لو تخيلنا ذرة بدون فراغ، فإنها –بالفعل- تستوعب هذا الكون بأكمله.
............................
أعود إلى النص القرآني. الآية تقول:" إن المتقين في جنات ونَهَر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر". تفجرت المعاني أمامي فاكتشفت أن هذا النص البليغ القصير يلخص الدنيا والآخرة. الدنيا متمثلة في "المتقين". لم يقل المؤمنين. أنا مثلا أؤمن بالله بكل قلبي، ولكني لا أتقيه مطلقا. ربما أتقي الأشياء الضارة التي قد تؤذيني. لن أضع يدي في النار أبدا. لن أمسك بسلك كهرباء عالٍ. لن أقفز من الدور السابع. لكنني –مع الله- اقترف المعاصي بكل سلاسة. فهل استحق الجنة بإيماني؟ 
أبدا.
........
المتقون هم من يستحقونها. من لا يكتفون بالإيمان –مثلي- وإنما يهربون من سخط الله هربي من شعلة البوتاجاز وسلك الكهرباء العالي. 
ولأن الحياة في الأصل اختبار عسير. ولأن نداء اللحم والدم يستعبدنا. ولأن تقوى الله هي أصعب شيء في الكون، لذلك استحقوا هذه المنزلة:" مقعد صدق".
ما أعجب القرآن وما أشد كثافة عباراته. لذلك حيّر العرب وما زال يحيرنا. لقد صك تعابيرا جديدة لا علم للعرب بها. تعابير عجيبة. تعابير بليغة. تعابير لن تصل إليها مهما حاولت. "مقعد صدق". هذا الاستواء! التكريم! الثقة! بلوغ القصد! الراحة بعد التعب! يا لها من بلاغة مذهلة. 
"عند مليك مقتدر". اعتقد أن هذه المرة الوحيدة التي استخدم فيها القرآن لفظ المليك، للكناية عن الخالق عز وجل. ليس مليكا فحسب، بل مقتدرا أيضا. "مقتدر" تلخص كل شيء: القوة، المنعة، القدرة! العظمة غير المتناهية.
.......
هل فهمتم الآن لماذا احسست بالتشابه بين النص القرآني وبين الذرة الأولى التي بدأ منها خلق العالم؟ 
إنها الكثافة غير المتناهية.