أشرف

ماتت تغريد! مات الحب الطاهر البريء! لكن ما حدث لأشرف بعدها كان هو الأهم! الطاقة الكامنة داخله، والتي انفجرت لحظة الحزن العظيم! وحولته من مجرد رسام متواضع القدرات، إلى فنان قدير.
............
 كان أشرف من هذا النوع الذي يحصد الدرجات النهائية في حصص الرسم، ويستطيع أن ينقل ملامح وجهك بإتقان. لكن رسومه كانت- في رأيي- فاقدة الروح، تقليدية الأسلوب.
كنا على شفا المراهقة، حين تدفقت أطنان الهرمونات القلقة تلهمنا بحب الكون وعشق الكائنات السحرية التي تُدعى "البنات".  لم نكن نعلم وقتها أننا لسنا أكثر من قلم تمسكه يد أكبر منا، هدفها أن تستمر الحياة.
كنا ننتظر الشرارة السحرية، وكان أشرف محظوظا في هذا الجانب. شاهدها تذهب إلى المدرسة المجاورة فوقع في غرامها. وكما تقتضي تقاليد المراهقة راح يتبعها في الذهاب والإياب! بالتدريج بدأت تنتبه إلى وجوده، ثم أحبته حين راح يمطرها بلوحات تُصوّر وجهها الجميل. كان ذلك فوق قدرتها على المقاومة! أحبته وبدأت قصة حب ناعمة بين أشرف وتغريد.
............
ولأنني كنت صديقه المقرب فقد كنت أعرف كل التفاصيل. كان شعورا رائعا أن تنمو أمامك قصة حب عذرية بين قلبين طاهرين، وكان أسعد يوم في حياتي حينما كبرنا وتُوّجت قصة حبهما بالزواج.
أيام من الجنة عاشاها في بيت بسيط عند أطراف المدينة، حيث المدى الأخضر والحدائق والحقول. في جنة منعزلة عن العالم، وكأنهما آدم وحواء. يتنزهان تحت الأشجار المورقة، ويطهوان الطعام بمرح ويتضاحكان كطفلين سعيدين.
لذلك يمكنكم أن تتوقعوا الفاجعة التي ألمت بأشرف حين ماتت تغريد، وجعلت منه شبه مجنون. كان مرضها سريعا ومفاجئا، وكأنه ضربة القدر حين تُفرّق بين حبيبين.  
في البدء انقطع عن العالم، ولم تفلح محاولاتي للتخفيف عنه! وكلما زرته وجدته نامي اللحية، زائغ النظرات. كانت كلمات العزاء إهانة! ولم يكن هناك أفضل من مشاركته الصمت والذكريات.
على أن ما حدث بعدها كان مفاجئا. ذات صباح رأيته وقد اغتسل وحلق ذقنه وعادت عيناه تلمعان بالحياة. وجدته منكبا على لوحة يرسمها لحبيبته. وقدّرت أنها ميكانيزمات الدفاع، يحاول من خلالها أن يجد هدفا حياته بدلا من الانتحار أو الجنون. وفي الأيام التالية شرعت اللوحة تُولد ببطء أمام عيني المأخوذتين. ما زلت أتذكر هذه اللوحة المعجزة التي لم أشهد مثيلها في حياتي. كانت تغريد تقف بملامحها الملائكية رافعة الوجه إلى السماء. ووجهها النضر سابح في الضوء، وكأنها تبتهل أو تصلي!
حين انتهت اللوحة حملها وانطلق إلى المقابر، وأنا اتبعه في تأثر عظيم. وهناك عند قبرها الذي يشيع فيه السلام والهدوء المطبق، انخرط في بكاء عميق. ثم فجأة ترك اللوحة هناك وانصرف، وأنا أحاول أن أثنيه عن تصرفه العجيب. كنت أعرف أن الأمطار ستتلفها، أو يلتقطها أحد العابرين. لكنه أصر وأخبرني أن اللوحة صارت تعذبه كلما نظر إليها، وكأن ضوء النهار قد انحسر ورحل مع الراحلين. 
مرت الأيام بعد ذلك ولازمته نظرة حزينة مزمنة، الغريب أنه توقف بعدها عن الرسم، وكأنه وضع كل ذاته في هذا العمل الجميل.