أروح لمين

الشمس تسحب آشعتها وترحل. الليل الحنون يهبط بأنسامه الرحيمة. والمدينة تلملم جراحها وتسكن. ومن مذياع قديم في محل "فول وطعمية" تنساب أغنية تنتمي إلى زمن قديم. حينما كانت الأشياء ببكارتها الأولى: الشوارع مغسولة وفسيحة. والنيل صاف متدفق، والطبقة الوسطى لديها البال الرائق للحب. وأم كلثوم تشكو لوعة الحب وتشدو: " أروح لمين؟" .
صديقان يأكلان شطائر الطعمية وهما يجلسان أمام المحل على الرصيف. يستمعان إلى الأغنية في طرب فيهز رأسه مستمتعا ويقول:-  الله عليك يا ستَ!. 
( الثاني وهو يقضم الساندويتش) يا سلام لو كان الواحد يحبس الساندويتش ده بكبايه شاي
(متفلسفا) الغريبة يا أخي أن الحياة- برغم اللي بيحصلنا- حلوة. ولا جايز جتتنا نحست واتعودنا على الشقا!، يعني الساندويتش اللي بناكله ده لو حللنا عناصره حتلاقي أحسن لنا نآكل صراصير!
( يشرق من الضحك ويكح) يا أخي استنى لما نخلص الأكل الأول. الله يقرفك 
وحياة أبوك ما تعملش نفسك مش عارف. عندك رغيف العيش ده. عارف القمح كان متخزن أزاي وفين!. نصه حشرات وفطريات ونشارة حديد، ده غير الفرن واللي بيجرى فيه!.
(وهو يبلع اللقمة برشفة كوكاكولا) أنت حتقول لي!ّ، ما أنا هناك كل يوم!
وخذ عندك عجينة الطعمية: عندك يا سيدي( وأخذ يعد على أصابعه) خضرة مرشوشة بالمبيدات المسرطنة، وفول مدشوش. أرخص وأردأ أنواع الفول، فول ما ترضاش البهايم تاكله، ولو كانت ترضى تاكله كانوا استخسروه فينا، صح؟
( وهز يزدرد اللقمة) بس برضه طعم!
(مواصلا) وطبعا العيش اللي بيعجنوه مع الفول معفن، بيلموه من الزبالة
(مقاطعا) طبعا ده مفروغ منه( ثم يضحك ضحكة طويلة تنزعج منها قطة سوداء عابرة تنظر إليه ساخطة ثم تولي هاربة وهي تهز ذيلها) 
 والسلطة مزروعة بمياه المجاري. والزيت اللي بيقلوا فيه الطعمية أصله من عهد الفراعنة. هو نفس الزيت اللي كانوا بيقلوا فيه لتحتمس. كل ما ينقص يزودوه. إنما مستحيل يرموه.
(ماجنا) ده غير الطرشي يا معلم واللي بيجرى فيه.( ثم يكف عن الضحك فجأة وتدمع عيناه) تصدق بجد!، أنا اكتشفت دلوقت أننا غلابة أوي!. يعني شايف، أنا وأنت قاعدين دلوقت على الرصيف، ومفيش في جيبنا غير تمن المواصلة اللي حنروح بيها، عارفين أننا ملناش أمل خالص، عمرنا ما حنتجوز، ولا حنستمتع بحياتنا زي بقية البني آدميين. وبرغم كده بنحب مصر، تفتكر ليه؟. 
ويصمت صاحبه فلا يجيبه، وتهب نسائم الليل الرحيمة لتجفف دموعهما، هناك حيث جلسا على الرصيف أمام المحل، يستمعان إلى الأغنية الشجية "أروح لمين؟"


x