أرواح طيبة

انعقدت صداقة جميلة بين الزوجة وأم الزوج. كلتاهما كانتا تتميزان بالوداعة والخلق الحسن. حدث ذلك في تسعينيات القرن الماضي. مع مرور الأيام صارت جلساتهما وقت الأصيل أجمل ما في يومهما. يحتسيان فنجان القهوة المحوج. يتبادلان أحداث اليوم ويعلقان على المسلسلات التلفزيونية حتى يؤذن العشاء فتنصرف.
ماتت الأم بعد مرض قصير لم تجد من ترعاها باخلاص مثل زوجة ابنها. ولحظة توزيع التركة رفضت أن تأخذ شيئا من ذهبها باستثناء سلسلة رقيقة خفيفة الوزن ظلت ترتديها على سبيل الذكرى.
.....................
والذي لم تعرفه قط أن الأم كانت على علاقة روحية بديعة بأمها (الجدة). من ضمن كل البنات التي أنجبتهن لم تكن هناك من هي أقرب إليها منها! كان ذلك في أربعينات القرن الماضي! ولم تكن وسائل التسلية المعروفة قد أُخترعت بعد! والراديو باهظ الثمن للميسورين فقط. وكانت دون باقي شقيقاتها موضع سر أمها وسمرها! وحينما ماتت كانت آخر دعوة من نصيبها هي. وظلت هذه الدعوة رابطا خفيا لا يعرفه غير الله تعالى.
...............
ولعل أحدا لن يصدق أن هذه الجدة كانت هي الشقيقة الصغرى المدللة لأختها الكبرى التي ربتها، بعد أن ماتت أمها في سن مبكرة. لم يمنعها هذا من الزواج، ولكنها أنذرت الزوج أنها لن تتخلى عن رعاية شقيقاتها. ووافق الزوج عن طيب خاطر. حدث ذلك في عشرينيات القرن الماضي. وظلت الجدة تحتفظ بمشاعر الصداقة الرقيقة مع أختها التي ربتها. وكانت تمسك بيدها لحظة خروج الروح.
................
ما لم تحكيه الأخت الكبرى أن جدتها كانت بمثابة الصديقة لها. وبرغم أنها ذلك حدث في أواخر القرن التاسع عشر فإنها لم تتوان عن المكوث بجوار جدتها المصابة بالشلل عشرين عاما كاملة. كانت جدتها شحيحة الابتسام، ولم تكن تبتسم أبدا إلا حين تراها.
...............
القرن الواحد والعشرين
أشرق وجه الزوجة رغم الغيبوبة. وارتفع صوت عبد الباسط عبد الصمد الذي كانت تحبه كثيرا، والتي حرصت ابنتها الصغرى أن تجعله بجوار أذنيها. وأشرقت الغرفة بنور خفي. قال سيد الملائكة في سعادة لم يحاول أن يخفيها:" هذه روح طيبة. اغسلوها بالفضة وجففوها بالنور. ثم ارفعوها إلى السماء فسيفرح بها نبيها".
انتزاع الروح في العادة مؤلم يشبه جذب الصوف من الشوك. ولذلك في لطف بالغ، أشبه بالرقة التي تعالج به الأم وليدها، شرع الملاك يجذب روحها من أعماق جسدها، محاولا بكل سبيل أن يتلطف. وبالفعل استجابت الروح دون مقاومة، كفيض من النور يتدفق في فرح. لكن المفاجأة حدثت عندما خرجت الروح تمسك بسلسلة من ذهب، تتعلق بها روح أخرى.
شهق الملاك في دهشة:" ما هذا؟". قال سيد الملائكة وهو يتأمل الروح الأخرى:" هذه أيضا روح طيبة. ارفعوها معها".
راحت الروح الثانية تخرج بلطف حتى انسابت كعطر فواح. لكنها كانت تمسك بآخر دعوة خرجت من الروح الثالثة التي تشبثت بها. تبادل الملاك النظر مع سيد الملائكة ثم شرع يجذبها وإذا بها تمسك بيدها روح شقيقتها الكبرى التي ربتها. جذبها هي الأخرى فوجدها تمسك بابتسامة جدها المشلولة.
والذي حدث بعدها أن الأرواح توالت، الواحدة في أثر بعضها، صاعدة إلى السموات العلى. وسجدت الظلال وسبحت الملائكة بحمد ربها. وقال سيد الملائكة وهو يخفض أجنحته خشوعا لله عز وجل:
"ارفعوها جميعا إلى السماء فكلها أرواح طيبة تأخذ بأيدي بعضها".