جلس في الممر الفاصل بين عربات القطار. القطار يهتز، والعربات تهتز، وجسده يهتز، والعالم كله يهتز. كل شيء يبحث عن السكينة. عن حالة السكون الأوُلى التي كانت عليها الذرة الأمّ التي بدأ منها خلق العالم. وقتها لم يكن هناك زمن. لا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل. الزمن نشأ حين بدأت الحركة. وبدأت معها الغربة والتعاسة.
انبثق الانفجار العظيم، وبدأ الحزن العظيم. حزن كالذي يطويه بين ضلوعه الآن. حزن لا يبوح به وإنما يمضغه في صمت. يصمتُ لأن أحداً لا يسمعه، ولا يريد أن يسمعه. لأن شظايا الذرة الأمّ حين تفرقت انتشرت في كل مكان، مُثقلة بالفرقة والغربة والتشرذم، بعيدا عن اللقاء الدافئ بباقي مكونات الذرة.
................
رباه! إنه يهذي! ماذا لو أطلع ركاب القطار على أفكاره الغريبة!. هل يضحكون أم يُصابون بالهلع والارتياع!. فكرة طريفة والله تستحق أن يرويها لأصدقائه. ولكن هل يكذب على نفسه! لم يعد لديه أصدقاء. كان ينعم بالصحبة أثناء مرحلة الدراسة. بعدها تشردم أصدقاؤه في سبيل لقمة العيش حتى صاروا يلتقون كالغرباء.
وحيدٌ بكل ما هذه الكلمة من معان. سادتي ركّاب القطار. يا شظايا الذرة المبعثرة التي لا تكف عن الحركة، لا تريد أن تهدأ حتى يعيدها الموت إلى حالة السكون الأولى. إنني أنادي فهل من مجيب! هل من أحد يسمعني! يفهمني! يرأف بي! يُشعرني أنني في كون صديق! أخوكم في البشرية يجوب عربات القطار متظاهرا أنه يبحث عن مقعد، والحقيقة أنه يبحث عن روح واحدة صديقة! يهتز القطار فيهتز، يميل، يحاول جهده ألّا يقع، أخوكم هزمته الصحراء المنتشرة داخله!أخوكم هزمته وحشة الطريق.
...............
الليل في الخارج والوحشة في الداخل. أنهكه التجوال في عربات القطار فوقف في الممر الفاصل بين العربات، في انتظار اقتراب محطة الوصول. راح يتأمل الجالسين على الممر مثله، هؤلاء الذين لم يجدوا مقعدا مثله ولفظهم القطار. ربما يجمعه بهم وحدة شعورية معينة. تلفّت حوله. راح يرمقهم بعناية: رجل يدخن واقفا يزفر الدخان في قوة وتبدو على ملامحه الشراسة. شاب في مقتبل العمر، ومعه أخته، تبدو على وجهيهما الوداعة والأصل الطيب، يجلسان على جريدة فرشاها على أرضية الممر. عجوز نحيل، منكفئ على نفسه غارق في أفكاره الخاصة، ومفتش القطار البدين ذو السترة الزرقاء يذهب ويجيء.
راح يرمق الليل الخارجي بوحشة وحزن. وفجأة خطرت على باله فكرة عجيبة. لماذا لا يحاول القيام بتجربة روحية! يرسل روحه تتحسس الأرواح الصديقة! يطلق العنان لأفكاره:" أنا هنا، فهل من صديق؟".
استغرق في التركيز، حشد كل طاقته الروحية، أطلق القوى الخفية الموجودة داخله! أغلق عينيه وراح يبعث رسائله. القطار يهتز، والأبواب تهتز، وقلبه يهتز. لا اتصال بعد. عليه ألّا ييأس، أو يكف عن المحاولة.
رباه! لقد بدأ يُميّز كيانات ما! كائنات مُصْمتة! مُغلقة! مُقْفلة الأبواب. لكنّ المهم أنها كائنات! حاول أن يتحسسها، يتعرف على أبعادها، يطرقها في رفق، في لطف وخجل، في هدوء وأناة. لكنّ الأبواب ظلت على حالها من الإغلاق.
فليحاول مرة أخرى. فليقف على الأبواب. فليمكث طال الوقت أم قصر، فليرفع صوته بالبكاء، فليستجد، فيأب الانصراف. وفجأة شعر بباب واحد يتردد، يلين، يتراوح بين الفتح والغلق. طرق الباب في رفق:" صدقني! أنا هنا قلب صديق. لا اندفع. لا اقتحم. لا اعبث في مكنون الذات. لا أتطفل، لا استبيح المضنون به، لا أهتك الأستار. لا أكشف الأغوار. لا أفضح الأسرار. فقط تسلل رحيم، فقط اقتراب حميم".
فتح عينيه وراح ينظر حوله في فضول، محاولا أن يخمن صاحب الروح التي ترددت في فتح الباب؟. لم يصل إلى يقين ولكنه حدّس أنها الفتاة. عاد يرسل رسائله:" أنت؟ ألست كذلك؟". وفجأة رأى بسمة غامضة على شفتي الفتاة. عاود التركيز وراح يعاود الاتصال:" إذا كنتِ أنتِ، فأعطيني علامة! لو كانت تصلك رسائلي فارفعي يدك اليمنى في بطء، ثم امسحي بها على شعرك، ثم انزليها في هدوء".
وفجأة- لا يدري هل حدث فعلا أم يتوهم- شاهدها ترفع يدها اليمنى في بطء، وكأنها مسلوبة الإرادة، تمسح بها شعرها ثم تنزل في هدوء. غمرته سكينة لم يستشعرها من قبل وإحساس باليقين.
عاد يغمض عينيه، وفجأة انفتح الباب وأحس بهبة قوية من الهواء. هبّة مُحمّلة بعطرِ الورد البلدي والفل والريحان. راح يستنشقها بعمق وكأنه يستنشق رائحة الجنة. كان الباب مفتوحا أمامه كقلب صديق. أول ما طالعه كان الضوء الرائق المتدفق، يأتي من لا مكان وينتشر في كل مكان. خيالات رقيقة وأمنيات عذبة وأحلام ما قبل النوم، ثم بالونات ملونة تسبح في الهواء. تقدم أكثر فشاهد المدى الأخضر يمتد إلى آخر المكان.
ظل مغمض العينين، مستغرقا في تجربته الروحية، ضنينا بالاتصال أن ينتهي. لو كان قد فتح عينيه في تلك اللحظة لشاهد وجه الفتاة يَفْتُر هو الآخر عن ابتسامة عذبة وملامح حالمة، وهي مغمضة العينين في سلام روحي بديع.
..................
في كل الأحوال كانت تجربته الروحية توشك أن تصل نهايتها، والقطار قد ابطأ من سرعته، توطئة لأن يتوقف في محطة الوصول. استيقظ كالنائم من حلم طويل. فتح كلاهما عينيه في نفس اللحظة، ثم تلاقت نظراتهما في ذكريات مشتركة، لم يفطن إليها أحدٌ سواهما. تبادلا ابتسامة عذبة، حافلةً بالمعاني، ثم ذهب كلٌ إلى غايته، وغادرا القطار.
