أحمد وموريس

في ذلك الزمن السعيد من منتصف الستينيات، كانت نساء الطبقة الوسطى لا تجد حرجا في الولادة في المستشفيات العامة. لذلك حينما فاجئ الطلق السيدة عنايات اصطحبها زوجها المحترم الأستاذ سيد إلى مستشفى الولادة العام، وكذلك فعلت ست ماري زوجة عم فهيم. كانت الأمور- حتى هذا الوقت- لم تزل جيدة، وبها قدر كبير من الانضباط. فالأطباء متواجدون في المستشفى ولا يهيمون في الطرقات باحثين عن لقمة العيش، والممرضات يحافظن على كرامتهن ولا يطلبن الإكراميات. ولا عجب فقد كانت الأجور- على قلتها- تكفي ضرورات العيش وقليل من الترفيه.
عنبر الولادة متسع، نظيف، يدخله ضوء الشمس، وتفوح منه رائحات المطهرات. يختلط أنين الأمهات ببكاء المواليد بروعة لحظة الانبثاق والخلق. الله سبحانه وتعالى يتجلى في اسمه الخالق عز وجل.
..................
ولدت ست عنايات بسهولة كما كانت الأمهات يلدن في الزمن الطيب، جاءها الطلق، فحزقت، فنزل الوليد. وكذلك ولدت ست ماري زوجة عم فهيم. مفروض ألا يحدث خلط أبدا في المواليد، خصوصا في هذا الزمان حيث كان الكل يمارس عمله بأمانة وضمير. لكن من أجل الضرورات الفنية للقصة سنفترض أن خطئا قاتلا قد وقع، وأن الممرضة التي تلقفت الأبناء كانت شاردة، فحدث الخلط وسلّمت ابن ست عنايات إلى ست ماري، والعكس صحيح.
استلمت كل واحدة ابنها، الذي هو ليس في الحقيقة ابنها، دون أن تفطن لشيء، فالبشر يختلفون إلا في حالتين: الولادة والموت!. اختار عم سيد لابنه اسم " أحمد" واختار عم فهيم اسم " موريس".
.................
بالطبع نشأ أحمد- الذي هو في الحقيقة موريس- مسلما، ونشأ موريس- الذي هو في الحقيقة أحمد- مسيحيا. كان كلاهما في غفلة الطفولة حين انهزم الحلم القومي في سبعة وستين، وكانا في المرحلة الابتدائية عند دفنه في كامب ديفيد، وكانا في الجامعة حينما انطلق مارد الجماعات الجهادية من القمقم في نهاية الثمانينيات. في غياب الحلم القومي تشرذم الجميع، ولم يعد هناك " أمر جامع" يجمع بيننا، وكان طبيعيا أن يبحث كل واحد عن يقينه الخاص في أشد تفسيرات الدين تطرفا، وأكثرها نفيا للآخر.
فلنقل أن أحمد قد صار من المتشددين الإسلاميين، الذين يعتقدون أن أفضل الجهاد هو اهانة المسيحيين وإظهار الغلظة لهم، ولنقل أن موريس صار من أشد الكارهين للغزاة المسلمين( !!)، يمقتهم ويتمنى الهلاك لهم.
..............
انتهت القصة عند هذا الحد للأسف. لو كنا في دولة أوربية تحتفظ بسجلات المستشفى لكان ممكنا أن تظهر الذروة الدرامية حين يكتشف كلاهما حقيقة هويته. ولكن لأننا في مصر المحروسة فقد ضاعت الحقيقة إلى الأبد، مثلما ضاع كل شيء آخر. وظل موريس يمقت أحمد، وأحمد يكره موريس. ولم يعلم أحدهما قط أننا قطع من الصلصال الطري، تُشكّله الظروف المحيطة بنا. وحتى حينما نظن أننا اخترنا، فإن الحقيقة هي أن الأقدار هي التي اختارت لنا!.