أحلام الشباب

" هذه قصة حقيقية كنت شاهدها منذ عشرين عاما. الحوار الذي دار بين السائق والشاب البائس في السيارة الأجرة التي أقلتنا جميعا سجلته هنا بحذافيره. برغم السنين الطوال لم تزل صورة هذا الشاب مرسومة في ذاكرتي، بوجهه الغض وعينيه المندهشتين وملامحه البريئة. والحيرة التي كانت واضحة عليه. ماذا الذي فعله بالضبط ليستحق كل هذا العذاب!.

أحيانا أتساءل- بيني وبين نفسي- عما صنعته به الأيام؟. ترى هل ابتاع حذاء أحلامه بعد عشرين عاما؟. ترى هل يقرأ هذا المقال الآن؟. ألا باركه الله أينما كان. وطوبى له ولأمثاله من القابضين على الجمر. وسحقا لكل من تسبب في هذا الهوان".
.............
الشمس في السماء تشعل الحرائق في الرؤوس، والهواء ترابي خانق، والسيارات تمرق في جنون. وأسامة يريد أن يعبر الطريق إلى موقف سيارات الأجرة كي يعود إلى بلدته القريبة من المدينة بعد انتهاء اليوم الدراسي. وفجأة انطلقت صرخة ألم مفاجئة من أسامة.

  • آه.. آآآه. يا رجلي.
وقع مكوما على الأرض وهو يمسك بقدمه ويتلوى من الألم، وعلى مسافة أشبار كان حذاؤه ملقيا على الأرض.
  • ماذا حدث ؟ تساءل أحدهم.
  • ولا حاجة، موتوسيكل داس عليه، رد آخر في لا مبالاة.
وفجأة صرخ أسامة: يا دي المصيبة!! الحذاء اتقطع. اشتريته أمبارح بعشرين جنيه.
شرع يندب حظه بصوت مذبوح: ثلاث أحذية في شهرين يا عالم. حرام! والله حرام.
كان أسامة قد نسي كل شيء عن قدمه التي مرت عليها الدراجة البخارية، وقام يحجل على قدم واحدة نحو السيارة الأجرة.
قال أحدهم مواسيا: ما تزعلش. حيتصلح.
  • حينقطع تاني ، ده نوعية رديئة.
قال أحدهم مستظرفا: الحذاء زي شرف البنت. ما يتصلحش أبدا.
وقالت سيدة ريفية: فداك يا ضناي. المهم سلامتك.
قال محتجا وهو يركب السيارة: لا طبعا. الحذاء أهم.
……..
كانت سيارة الأجرة مكتظة بمن فيها. وأسامة يلهث من فرط الغضب. هو شاب يناهز العشرين عاما ويدرس بإحدى تلك المعاهد التي لا داعي لوجودها من الأصل ولا مستقبل لها على الإطلاق. هو مستقيم الطباع ويحرص على الصلاة في المسجد بانتظام، له لحية خفيفة ويصغي باهتمام إلى الدروس الدينية.

قال فجأة: أمبارح اشتريت حذاء، والنهاردة اتقطع، حرام ده ولا حلال؟.
إنه يريد أن يئن بصوت مرتفع ويبكي ويلطم على صدغيه، ويخمش وجهه بأظافره، ويريد أن يشاركه الآخرون إحساسه الفاجع بمصيبته.
عاد يقول وهو يتأوه: القضية مش أحذية. دي أزمة ضمير.
استرسل أسامة في الحديث غير عابئ بجمود الآخرين. هذا البائع الوغد الذي يزعم أن الحذاء متين. بالطبع تجاهل أسامة تماما في حواره الداخلي مع نفسه أن الحذاء قد تمزق من جراء حادث كاد أن يودي بحياته بنفسها.

  • اشتريته بعشرين جنيها واتقطع النهاردة. مفيش دين. مفيش ضمير.
  • ايه الحكاية يا أخينا؟. تساءل السائق في فضول.
قال أسامة مرحبا: أمبارح اشتريت حذاء بعشرين جنيها، والنهاردة اتقطع. حرام ده ولا حلال؟

- وده تسميه حذاء؟، قال السائق في استهانة. فيه أحذية بميه جنيه وأحذية بمتين.
اشتعل أسامة غضبا، كان ينشد التعاطف مع بلواه لا الأستهانة بها. مضت السيارة تشق طرقات المدينة التي لا ترحم، وهو يشعر بالثقب الكائن في حذائه، لن ينال بمحاولة إصلاحه سوى المزيد من ضياع قوت أسرته المكافحة. وهناك مصيبة قادمة، الشتاء والطريق الموحل والطين، والبلل القادم عبر جوربه الممزق. آآآآه.

  • اشتري حذاء محترم بميه جنيه، حيعيش معاك. قالها السائق ناصحا.
قلب أسامة كفيه دلالة على ضيق الحال. بينما طفق رجل قصير القمة متأنق الثياب يجلس في المقعد الأمامي يرمق حذاءه الأسود اللامع في إعزاز.
قال أسامة فجأة وبلهجة قاطعة: طب والله العظيم ما أنا خارج من البيت لحد رمضان!. هه.

وساد صمت عميق، لم يتساءل أحدهم لماذا أتخذ أسامة ذلك القرار المفاجئ، ولماذا لا ينوي أن يغادر منزله حتى رمضان بالذات؟.
قال السائق: اسمع. أنت شكلك غلبان فعلا. أنا عندي الحل السحري.
" غلبان؟". هم للحظة أن يحتج، أن يكابر ولكنه لم يفعل، أحس أنه سيبدو سخيفا لو فعل. إنه بالفعل غلبان، وأغلب من الغلب كمان.
  • حلك الوحيد تشتري حذاء ميري، رخيص وحيستحملك عشر سنين.
  • ممتاز. بس اجيبه منين؟، قالها أسامه وقد أشرق وجهه.
  • أي واحد معرفتك في الجيش. أديه عشرين جنيه يقسمهم مع أمين المخزن.
قال أسامة وهو يتذكر الدرس الديني الذي يصغي إليه في مسجد القرية: بس ده حرام.
  • حرام ليه؟، قال السائق ممتعضا.
  • لا بد للمرء أن يتحرى ملبسه ومأكله.( قالها فجأة بلهجة فصحي)
  • يتحري ملبسه ومأكله!!، قال السائق ملقدا لهجته في استهزاء، يعني أنت يتعمل تحريات لكل بياعة برتقال عشان تعرف برتقالها مسروق ولا مش مسروق؟
  • بس أنا عارف أنه مسروق. يعني أضحك على نفسي؟
قالها أسامة حائرا. كان في الواقع يحاور ذاته. يرغب بشدة في ذلك الحذاء المتين. لكنه شبهة قد تفضي به إلى الحرام.
..............
كان أسامة شابا في العشرين، لا يصبو- كأي شاب في سنه- إلى فتاة يصاحبها، أو سيارة يقودها أو حتى برحلة مع أصدقائه. إنه يحلم فقط بحذاء متين. فيا لأحلام الشباب!.

مضت السيارة تشق طريقها الترابي وأسامة قد اُغرورقت عيناه بالدموع من فرط الحزن، ومضى يردد لنفسه من آن إلى آخر: " هذه فقط هي أحلامي"