أحزان تبتلعها العاصمة

الليل يهبط على المدينة، يكْسوها بوحشة لا شك فيها. وسيارة الأجرة تزحف في شوارع العاصمة التي ترحم، ولسبب ما، وبرغم أنه جالس في المقعد الأمامي بجوار السائق فإنه لا يسمع صخب الشوارع. ليس لأنه أصم، ولكن لأنه منكفئ في عالمه الداخلي.
يسمع أصوات من الماضي. وبرغم أنه لم يتم السادسة عشرة بعد فإن الماضي هو كل ما يملك. حينما كان له بيت ومكتب وسرير. حينما كانت الجدران تشع دفئا، والأسرة تجتمع حول مائدة الطعام. كان الأكل ساخنا ووفيرا، ولم يكن واردا أن يلاحظ أحد كمية الطعام التي يأكلها بعين الريبة والامتعاض.
  • " فيصل يا أسطى". هتف أحدهم من خلال الشباك المفتوح، فأبطأ السائق مترددا، قال الصبي في تشجيع:" خده يا عمو. وصله الأول وبعدين وصلني. مش مشكلة لو تأخرت".
نظر إليه السائق نظرة متفحصة، وبدا كأنه يريد أن يقول شيئا ثم لزم الصمت.
الصمت كان رد فعله عندما تلقى الخبر. حادثة أودت بالأب والأم معا، لو كان أكبر قليلا لعرف أن حوادث الطرق قد خلفت من الضحايا ما يفوق شهداء الحروب.
  • " مش خايف أهلك يقلقوا عليك؟". تساءل السائق في فضول،" الساعة تقترب من منتصف الليل".
  • ماليش أهل. ( ثم مستدركا) خالي بس!
أدار وجهه إلى الجهة الأخرى ليداري دمعة ترقرقت على خده. في البدء ظهر أقارب كثيرون، ثم اختفوا ولم يبق إلا الخال الذي ضمه إلى بيته. هب الهواء البارد فجفف خده. وبدا أن السائق لاحظ كل شيء.
  • أبوك فين؟، سأله في لهجة حنونة
مات. قالها في لهجة هامسة، لدرجة أنه لم يكن متأكدا أنه نطق بالكلمة. لكن السائق سمع الإجابة. نزل الزبون وهتف زبون آخر:" المهندسين يا أسطى!".
نظر إلى الفتى فأشار له أن يقبل الزبون. " حتتأخر كده؟". هز رأسه بمعنى أنه لا أحد يقلق عليه. تساءل السائق:" وأمك؟". نكّس رأسه ففهم السائق كل شيء.
كان هواء الليل البارد يتسرب من النافذة، والبيوت تتلاحق أمامه، تشع شرفاتها ضوءا وأنسا. مثل بيته القديم زمان. حينما كان يأوي إلى فراشه غير مدرك نعمة أن يكون بين أب وأم.
وفجأة ربت السائق بيده الكبيرة على كتفه في تعاطف. أحس الفتى بدفء يغمره، وكأنها يد أبيه. شرع يتأمل السائق في مودة: ضخم البنيان، طيب الوجه، له ملامح توحي بالثقة. نزل الزبون وركب زبون آخر. لم يستأذنه السائق هذه المرة، واستمر الحديث بينهما عذبا دافئا. له طعم الأيام الخالية.
كان الفجر قد اقترب حينما أوقف السائق السيارة أمام بيت الغلام بعد أن جابا المدينة معا في توصيل الزبائن. رفض السائق أن يتقاضى الأجرة. نظر الولد إلى دفء السيارة. للحظة همّ أن يناشده ألّا يذهب، أو يعطيه موعدا آخر، لكنه لم يجرؤ.
تظاهر أنه يصعد الدرج، ولكنه كَمَنَ عند بوابة البيت ليشاهد الأضواء الخلفية للسيارة وهي تبتعد في بطء، قبل أن تختفي إلى الأبد.