وفاة محمد فريد

15 نوفمبر عام 1919 وفاة محمد فريد.
من أين لنا الآن بمثل هذا الرجل؟، أيام كان الرجال رجالا. محمد بك فريد. اسمع حكايته، فإن غلبك التأثر – كما حدث معي – فتطهر بالبكاء وتوضأ بالدموع، ثم اقرأ لروحه الطاهرة الفاتحة.
يا إلهي!، هل يوجد حقا كل هذا النبل، هذا الصفاء، حب الوطن، التضحية بلا حدود. شيء يشبه عطاء الأمومة، كالشمس تمنح دفئها بلا مقابل، كالطيور تغرد بلا ثمن. يعطي بلا ثمن لأن الثمن الحقيقي لا يستطيع أحد أن يدفعه. لا يوجد  مقابل لقلبك واهتمامك، لصحوك ونومك، لمالك ولحريتك، لأمن أطفالك وراحة بالك. هذه أشياء لا يكافئها إلا الخالق عز وجل.
محمد بك فريد المولود عام 1868، المسلم شديد التدين، الوطني الخالص، المنحاز للفقراء والمستضعفين، زعيم الحزب الوطني بعد مصطفى كامل، الذي لم يتكسب من السياسة، ولا صنع من جلود شعبه طبولا يدق عليها ألحان مجده. بل أنفق ثروته في سبيل القضية المصرية، كان هذا أهون عطائه لمصر، بمكاشفة العشاق الكبار فهم أن الشعب بحاجة أن يتعلم ويتكتل، فأنشأ المدارس الليلية لتعليم الفقراء مجاناً، وأنشأ النقابات، بعدها اتجه إلي الزحف السياسي، يدعو إلى المظاهرات فيلبي الشعب، ويحمل إلي الخديوي عشرات آلاف النسخ الموقعة التي تطالب بالدستور.
وأثناء وجوده في باريس ليعد مؤتمرا لبحث المسألة المصرية (أنفق عليه بالكامل من جيبه الخاص) عرف بنية الحكومة سجنه عقابا له على مقدمة كتبها لديوان شعر أدان فيها استبداد الحكام ورشوتهم للشعراء ليكتبوا قصائد المديح ويبتعدوا عن قيم الحرية والاستقلال، وأدان خلو خطب المساجد من كل فائدة حتى أصبحت تدور حول التزهيد في الدنيا. نصحه أصدقاؤه بعدم العودة بسبب نية الحكومة سجنه لولا هذه المباراة النادرة في النبل بينه وبين ابنته فريدة التي كتبت إليه كلاما لا يصدق!: "لنفرض أنهم يحكمون عليك بمثل ما حكموا به علي الشيخ عبد العزيز جاويش، فذلك أشرف من أن يقال بأنكم هربتم. أتوسل إليكم باسم الوطنية والحرية، التي تضحون بكل عزيز في سبيل نصرتها أن تعودوا وتتحملوا آلام السجن!"
وحُكم عليه  بالسجن ستة أشهر، لكنه لم يشعر  بالضيق إلا عند اقتراب خروجه، لعلمه أنه خارج من سجن إلي سجن أشد: سجن الأمة المصرية!!.وكانت نهايته في أورباً فقيرا وحيدًا، لا يجد أهله المال اللازمً لعودة جثمانه، إلي أن تطوع أحد التجار الوطنيين بنقله إلى تراب المحروسة الغالية القاسية.
محمد فريد، يا قلب الذهب، أبكيتني كثيرا سامحك الله.