همينجواي، وداعا

همينجواي، وداعا..
في مثل هذا اليوم (2 يوليو) من عام 1961 انطفأت شمعة، وانحدرت دمعة. واستيقظ العالم مذعورا على صوت رصاصة انتحر بها الكاتب الإنساني الكبير والروائي الشهير، إرنست هيمنجواي الأمريكي الذي لم ينتم إلا إلى جنس الإنسان. الرحالة الذي طوف العالم شرقا وغربا باحثا عن خلاصه وسلامه النفسي في عالم مضطرب لا يقيم وزنا للإنسان. على الفور أحس العالم بخسارته وكأن رصاصة همينجواي التي أطلقها على رأسه قد أصابت قلب البشرية جمعاء!.
لماذا يا همنجواي ألقيت سلاحك ورفعت رايتك؟، لماذا أعلنت الانهزام وآثرت الاستسلام؟، وأنت تعلم أنك مضمر فينا كلنا؟، مثلا لصلادة الإنسان الأول في مواجهة الطبيعة القاهرة. أرنست هيمنجواي الذي خاض أهوال الحرب العالمية، وخدم على سفينة حربية وحصل على أوسمة. كانت نفسه القلقة تدفعه دفعا لمواطن الخطر: هوايته الخطرة لمصارعة الثيران، مشاركته في الحرب الأهلية الأسبانية لغير سبب مفهوم، علاقاته العاطفية المضطربة التي تحوي طابع القلق، وذلك الصراع النفسي لأسئلة محيره: صراع الموت والحياة، لغز الكون الغامض ، والكوكب الأرضي السابح -بلا مبالاة- بساكنيه، أحزان كانت نهايتها الموت، وأفراح كانت نهايتها الموت، وقصص حب نهايتها الموت، لماذا يا همنجواي – حين عجزت عن حل الأسئلة – أطلقت الرصاص على نفسك وكأنك تنتقم؟.
أرنست هيمنجواي، الروائي الشهير، الباحث عن سكينته. ولد في أمريكا عام 1899 ميلادية والقرن التاسع عشر يلفظ نهايته. دخل معترك الحياة المهنية مبكرا، صحفيا ومتطوعا للصليب الأحمر، وفي أواخر الحرب العالمية الأولى أصيب بجروح خطيرة ليحصل على نوط الشجاعة. ما بين 1936 و 1938 عمل مراسلا حربيا لتغطية الحرب الأهلية الأسبانية، ثم نشر عام 1940 أهم أعماله "لمن تقرع الأجراس" وتحقق نجاحا خارقا.
نداء غامض كان يدفعه للمتاعب دفعا، غواية البحث عن معنى لوجوده أو قضية يؤمن بها. لم يكن كاتبا بل فيلسوفا معذبا. عالم مضطرب كابده حتى النخاع. عاش مغتربا ومات منتحرا. لكن موهبته كانت لا تقبل الشك، وجذوتها تستعص على الانطفاء. طوف الأرض شرقا وغربا فبدا كل شيء كريها كاذبا. لم يعد شيء يرضيه أو يحقق سعادته. وحتى جائزة نوبل التي نالها على رواية " العجوز والبحر " لم تمنحه سلامه النفسي المنشود أو تبدد تعاسته. كان هو الصياد العجوز الذي يصارع السمكة العملاقة ولو كلفه الأمر حياته، أو جذبته السمكة بعيدا عن شاطئ الأمان. سمكة هي دنيانا القاسية المخادعة، وصياد عجوز هو أرنست همنجواي نفسه. حينما تصور أنه تمكن من السمكة العملاقة وربطها في قاربه، حينما شعر بالظفر والفخار وفرض إرادته، لم يكن يعلم أن رائحة الدم أغرت أسماك القرش لتلتهم مشروع عمره وثمرة كفاحه. لم يبق من السمكة العملاقة إلا هيكلاً عظميًا ملقى على الشاطئ، وصياد عجوز منهك أيقن بحلول الهزيمة، فأطلق الرصاص على رأسه، ليطفئ الإلهام فجوة قبيحة في رأسه تعلن هموده إلى الأبد.

في مثل هذا اليوم من عام 1961 أطلق إرنست همينجواي الرصاص على رأسه في منزله في كوبا ، لينهي قصة صراع هائلة عاشها الصياد العجوز مع سمكة الحياة.