أرزاق

شاهدته يسير فى هدوء من مارس نفس المهمة آلاف المرات. رجل وضىء الوجه، يحمل صرة خضراء اللون ويتوقف عند المارة ليدس فى جيوبهم بضعة دنانير. شرعت أراقبه وأسير وراءه. ولعل أكثر ما أثار فضولى أن الناس بدوا غير منتبهين. لذلك بدا لى سلوكهم غريباً إلى حد غير مسبوق. الطبيعى أنه لو دس أحد شيئاً فى جيبك أن تقف وتستغرب وتشاهد ثم تبحث عن تفسير. أما أن تمضى وكأن شيئا لم يكن فذلك هو الشىء المريب. اللهم إلا إذا كانوا لا يرونه!!!

وفهمت وانتصب الشعر فى ساعدى من هول المفاجأة. كل القرائن تشير إلى أنه كائن خفى لا يراه الناس. فلماذا أبصرته أنا من دون الجميع؟!
قررت أن أتعرض له وأنظر ماذا يفعل. وبالفعل وجدته يدقق فى كتاب يحمله، وكأنه يبحث عن اسمى، ثم يدس فى جيبى بضعة دنانير. أمسكت معصمه بقوة، فانتفض من المفاجأة، ونظر نحوى فى ذهول. قال كالمأخوذ: «أترانى؟». قلتُ: «نعم. هل المفروض ألا أراك؟»، صمت وكأنه يستوعب كلامى وقال كالمخاطب نفسه: «كل شىء بالمقادير».
ابتسمت فى رقة وقلتُ: «هل أنت كما أتوقع؟». فابتسم للمرة الأولى وقال فى صفاء: «نعم. أنا مندوب الأرزاق. أرسلنى سيدى لأحمل إلى الناس أرزاقهم، وها أنا أفعل».
قلت متشبثا بالفرصة: «لكننى لاحظت أنها دنانير قليلة». نظر نحوى فى رثاء وقال: «هكذا أرزاقهم». قلت وقد لمعت فى رأسى فكرة: «أرجوك أن تعطيهم أكثر. إنهم فقراء». نظر نحوى فى دهشة، وقال: «أنا مأمور».

قلتُ فى حرارة: «بالله عليك، هل خزائن سيدك ملأى؟». قال وهو يمد ذراعيه: «أوووه». عاودت سؤاله ملحا: «هل تخشى إذا أعطيتهم أكثر أن تنفد هذه الخزائن؟». فابتسم وكأنه سمع دعابة، ثم قال فى لهجة قاطعة:«مستحيل».
قلت فى حيرة دون أن ألاحظ أننى ألوح بيدى أكثر مما ينبغى: «إذاً فلماذا لا تعطى كل واحد مسألته، أو فوق مسألته؟!». قال فى هدوء: «هكذا أمرنى».
قلتُ له متوسلاً: «اسمع. إن سيدك كريم والكل يتحدث عن كرمه. وأنا متأكد أنه لن يمانع إذا زدت اليوم فى العطاء وأدخلت السرور على فقراء المدينة. بل لعله يسعد بذلك كل كريم». قال متردداً: «ولكن؟».

أمسكته من يده وشرعت أشير على الدور الفقيرة. ووجدتنى أبكى فى حرقة متألماً: «انظر إلى الأرملة التى شح رزقها. انظر إلى العيال الجوعانين لا أحد يعبأ بهم. انظر إلى العامل والسرّيح والأرزقى ومن ضاقت به السبل. أرجوك أعطهم أكثر».
وإذا به يغمض عينيه ويغيب عنى، يمعن فى الصمت وكأنه يتلقى رسائل غيبية. مرت دقائق خلتها دهوراً وهو صامت، ثم فتح عينيه وقال مستبشراً: «أمرنى سيدى أن أطاوعك. الليلة فقط». ثم نظر فى عينى مباشرة، وقال فى خطورة: «مأذون لك أن تصنع كما تشاء. ولكن احذر فالأمر خطير».
................
قلتُ فى فرح جنونى: «فإذاً أنا الموكّل اليوم بالأرزاق!؟». ثم دمعت عيناى وهمست لنفسى: «أقسم ألا يبيت على ظهرها مسكين».
وشرعتُ أرتقب القادم التالى. كانت امرأة يبدو عليها الغلب والمسكنة، وكأنها قد حملت هموم الثقلين. أعرف هذا النوع من النساء، البائسات حد الجوع، وأحب فيهن قدرتهن على الفرح. جنيه واحد يرسم الابتسامة على شفتيها.
ناولنى فى صمت صرة الدنانير. لملمسها نعومة لم أستشعرها من قبل، أما عن رائحتها فأوشكتُ - حين انبعثت أخلاطها - على الإغماء.

صببت جميع الدنانير فى ثوبها، فاعترتها هزة كأنها لمسة شهاب. نظرت إلى الصرة فوجدتها امتلأت من جديد، فقلت فى سرور: «يعطى من يشاء بغير حساب». الكهل القادم كان نحيفاً ومنحنياً، ويرتدى سترة صيفية ذات جيب خاوٍ عريض. صببت دنانير كثيرة فى جيبه، اختفت بمجرد دخولها. عادت الصرة تمتلئ وعدتُ أفْرغها من جديد. تتابعت الأشكال حتى تشابهت وقد تملكتنى نشوة بلا حدود. وكُشف عنى الستار فشاهدت ما يحدث فى بيوتهم الآن. وكل منهم يكتشف حين عودته مفاجأة: جوهرة نادرة فى صندوق قديم. ميراث من جد مجهول لا وارث له سواه. أوراق بنكنوت تملأ غرفة النوم فجأة. أراض شاسعة، قصور شاهقة، أكداس من ذهب وفضة تحتاج كى تُقطّع إلى أن تكسّر بالفؤوس. الفرحة الجنونية أشبه بالهلوسة، والشفاه تلهج بالحمد، والرضا يفعم النفوس.
استدرت إلى صاحبى فوجدته اختفى. عدت إلى منزلى وقد أسكرتنى النشوة، وشعرتُ بأننى امتلكت قمة العالم، وخُلقت من جديد.

استيقظت فى الصباح على طعم البهجة، وتساءلت فى داخلى عن أحوال الناس. فنزلت أستقصى أحوال الرعية كملك سعيد. بمجرد نزولى صدمنى أن الطرقات خاوية من الناس. الحوانيت مغلقة، السيارات نادرة إن لم تكن منعدمة، وتسير بسرعة خاطفة، أما سيارات الأجرة فلا وجود لها. وعضنى الجوع فلم أجد متجراً مفتوحاً.
ذرعت معظم طرقات المدينة بلا فائدة، وهدنى التعب فجلست على أفريز الشارع كى أستعيد قوتى وأبحث عن تفسير. وفجأة وجدته جالساً بجوارى، صاحب الأمس، وقد بدا الهم على وجهه، وقبل أن أسأله بادرنى: «أرأيت كم آذيتهم بأفعالك الحمقاء؟».

وانعقد حاجباى، وتحول وجهى إلى علامة استفهام كبيرة، فأردف مفسرا: «كلهم فرحوا بأرزاقهم ولم تعد بهم حاجة إلى العمل، فتوقفت أحوال العباد».

وبدأت أشعر بخطورة الأمر، فأشار بيده فانكشفت غياهب المستقبل. وإذا بى أشاهدهم فى قصورهم وقد فقدوا الحماس. قال صاحبى فى أسف: «الفرحة قرين الندرة. والترف سقم يُسمّم النفوس. هذه العجوز كانت تسعدها العشرة جنيهات وتفتر عن ثغرها ابتسامة حلوة لجلباب رخيص. واليوم اعتادت الترف فصارت أفقر الناس إلى الفرح».

همست له وأنا من الحزن فى حال: «والعمل؟». رد هامسا: «الرضا بالمقدور». واستدار مبتعداً، فقلت بصوت مرتفع رنّ فى الشارع الخاوى: «حيرتنا الحياة»، فردّ دون أن يلتفت: «بل أنتم الذين حيرتم الحياة».