أحوال مصر بعد مائة عام

شاهدته غريبا يشعر بالحيرة والضياع. يقف متلفتا كمن لا يصدق ما يراه، ثم يسأل بائعة الجرائد في صوت قلق متردد قلق:
  • ممكن  تعطيني جريدة الانبطاح؟
  • أيه! ( وقد بدت على البائعة العجوز الدهشة)
  • جريدة الانبطاح.
  • مش موجود( قالتها في اختصار من لا تريد أن تضيع وقتها الثمين)
وهنا تجلت مظاهر الحيرة على وجهه أكثر وأكثر، وانحنى يقلب الصحف في فضول وعدم تصديق، شاهدته يقرأ المانشيتات في فضول، والبائعة تزغر له. ثم رفع بصره لتاريخ اليوم المكتوب بخط صغير، وعلى الفور وجدته يقوم منتفضا، وعلى وجهه ملامح الصدمة العنيفة.
واستيقظ حسي الصحفي المرهف، فاقتربت منه عالما أنني عثرت على خيط مؤكد لمقالة رائعة فخاطبته متوددا:
  • صباح الخير يا أستاذ
فنظر إلى في ذهول أكد لي أنه لا يراني ولا يسمعني.
ثم انتبه لي فهز رأسه بالتحية، الأمر الذي اعتبرته قبولا لصداقتي الجديدة التي فرضتها عليه.فتأبطت ذراعه ومشينا سويا. وأخرجت علبة مارلبورو احملها دائما (لتسليك) أموري برغم أنني لا أدخن
  • تدخن؟
  • أيه ده؟( نظر لها في فضول)
  • حيكون ايه يعني ؟ سجاير
- بتتكلم جد، سجاير!( قالها وقد بدت علية لهفة حقيقية واختطفها وراح يتحسسها في جشع، ثم قال مفسرا)، كان نفسي اشوفها أوي
هذا الرجل الذي لم ير السجائر من قبل وراءه لغز!. بدأت أشعر بالقلق والحيرة، وقشعريرة غامضة انتصب لها شعر جلدي، وتسرب إلى نفسي الخوف الكامن في نفوس البشر من المجهول الغامض.
لكن الرجل بدا مسالما تماما، ساذجا  فيه الشيء الكثير من الطفولة الكامنة والدهشة. تأبطت ذراعه فسار مستسلما لي تماما وقد توطدت صداقتنا بشكل نهائي بسبب السجائر المارلبور( وهو أمر يحدث كثيرا في عالم الواقع على كل حال)، جلسنا على مقعد في أول مقهى صادفنا وطلبت الشاي
  • بس سخن بيلسع؟( قلتها للنادل محذرا)
  • شاي!، حنشرب شاي!، قالها في فرحة جنونية
  • وبعدين بقى!، قلتها في نفسي، ثم بصوت عال، فيه أيه يا أخينا؟، مالك مش على بعضك ليه؟
ولأول مرة لاحظت أن  ملابسه غريبة جدا، فقلت له في اختصار:
  • باقولك ايه يا عمنا!، هات اللي عندك بسرعة وما تتعبنيش
قال بسرعة وكأنه يكتب تلغرافا:
  • من الاخر كده أنا جاي من المستقبل. معرفش حصل أزاي لكن حصل. كنت بافكر في زمانكم قبل ما أنام وصحيت لقيت نفسي هنا
  • يعني بالصلاة على النبي كده أنت جاي من سنة كام؟
  • سنة 2110
  • يا قوة الله! بعد ميت سنة.
  • أنا فرحان، فرحان أوي. معايا سيجارة وباشرب شاي، عليا النعمة ما نا راجع تاني هناك. حافضل هنا على طول. شاي يا عم، سجاير!
  • هو الشاي غالي أوي عندكم؟( قلتها مبتسما)
  • حاحكي لك الحكاية بص يا سيدي أصل ..
  • لا أصل ولا فصل. حنضيع الوقت في حكاية الشاي!. ده أنت كنز. حاعرف منك كل اللي حيجرى في مصر في المستقبل، شكل المواصلات أزاي؟، بيوتكم؟، أكلكم ؟، التقدم العلميَ، مصر حتتقدم ولا حتتأخر؟، والأهم: مين الرئيس الجاي لمصر؟، جمال مبارك حيبقى ريس ولا لأ؟ . دي معلومات حاعمل بيها شغل بمليون جنيه
  • ( محذرا) بس اسمع شغل الاونطة ما يميش معايا، أنا جاي من المستقبل آه لكن مش كروديا. حقي حاخده على داير مليم. المصري حيفضل مصري إن شاء الله بعد مليون سنة، فاهمني يا هندزه؟!.
ابتلعننا القاهرة بضجيجها الذي لا يرحم. ذبنا في نيلها كذرتي ملح. القاهرة بجبروتها الذي جعلها تستحق اسمها بامتياز. تقسو على أبنائها وتركع لجلاديها. المحروسة التي لم تعد كذلك.
كان معي ولم يكن معي، منغمسا بالكامل في غرابة اللحظة. رفيقي القادم من المستقبل، والذي أُعوّل عليه في فهم ما هو آت. طفقت أرمقه وهو يرنو إلى ما حوله في دهشة وتعجب. لذتُ بالصمت وتركته يكتشف عذابنا بنفسه، عذاب أجداده منذ مائة عام.
لكنه- لدهشتي- كان سعيدا ومنبهرا، ملاحظات قصيرة كان يقولها باستمرار:
  • معقولة بتتعشوا كل يوم؟، قالها وهو يلتهم ساندويتش الطعمية الخامس في حماس
  • شوارعكم نضيفة بشكل!، قالها وهو يتأمل قمامة الشوارع
  • والأوتوبيسات فاضية أوي!، قالها وهو يشير إلى أوتوبيس العتبة، حيث الناس محشورون كالعجوة المكبوسة، يهبطون وقد تبدلت أعضاؤهم في الزحام. أعرف واحد أكتشف بعد نزوله أنه يحمل أنف رجل آخر ورجل طفل وشعر ست.
وبدأت انتبه إلى ملابسه الرثة الرخيصة التي تستر عورته بالكاد. رباه، ماذا صنعنا بأحفادنا بعد مائة عام!.
وفجأة توقف وهو ينظر إلى محال الثياب والطعام، يرمق ما حوله بعينين غارقتين بالدموع، ثم تنهد وقال بصوت عال:
  • يا بختكم، أنتم عايشين في أزهى عهود مصر!.
وانتظرت منه ابتسامة، أو ضحكة مفاجئة تُنبئ عن مزاح بارع، إلا أنني وجدته- لفزعي الشديد- جادا كل الجد. عادت القشعريرة تغزو جسدي.
وعاد يقول:
  • لقد كنا نسمع عن رفاهية أجدادنا، لكنني لم أكن أتصور أنكم مرفهون إلى هذا الحد.
  • احنا مرفهينَ!( قلتها وانا اقفز من الكرسي، ورواد المقهى يراقبوني في دهشة)
ابتسم في مرارة وقال
  • حينما يصبح الطعام شاغلك الأساسي..تماما كالحيوانات، حين تشاهد أطفالك يطلبون طعاما غير موجود، حينما تختفي البدانة في عالمك تماما، وتندثر البيوت تدريجيا ويسكن الناس الشوارع، حينما ينقسم المجتمع إلى قسمين، أقلية ضئيلة تملك كل شيء، وأغلبية كاسحة لا تملك أي شيء، وحينما تعرف أن هذا سيحدث لأحفادكم فسوف تعلمون أنكم في أزهى عصور مصر.
  • وما الذي جعل الأمور تتدهور عندكم إلى هذا الحد؟( قلت هامسا شاعرا بالرعب)
  • (قال وهو يبتسم في مرارة) أنتم. من غيركم!؟. زرعتم الشوك فحصدنا الشوك. فيما آباؤهم هناك( وأشار إلى الشمال كالحالم) زرعوا الورد فحصد أبناؤهم الورد. كنتم تشاهدون السادة يجرفون ثرواتكم خارج البلاد ثم تكتفون بالصبر. وكلما ساءت أموركم أكثر صبرتم أكثر. انتظرتم جني المصباح القادر على فعل المعجزات، الفارس الذي يقبل الأميرة المسحورة النائمة في دنيا الحكايات.
  • كنا غاضبين( قلتها بصوت مبحوح)
  • كنتم غاضبين لأن بيوتكم ضيقة واليوم صار أحفادكم بلا بيوت. كنتم غاضبين لأن شوارعكم سيئة واليوم صار أحفادكم بلا شوارع، كانت مستاءين لأن نقودكم قليلة، واليوم صار أحفادكم بلا نقود.  
  • كم عددكم في مصر الآن؟
  • آخر إحصاء منذ عشرين عاما كنا 280 مليون، بعدها كفوا عن الإحصاء
  • وكيف تتحمل الدولة مثل هذا العدد المهول؟
  • ( ابتسم في مرارة وهو يقول) لم تعد هناك دولة أصلا
لذت بالصمت تماما، وبدأت استعيد كلمات قالها في بداية لقائنا ولم أفطن وقتها إلى مغزاها:
  • "ممكن  تعطيني جريدة الانبطاح؟" قالها لبائعة الصحف حين شاهدته لأول مرة
  • "أنا فرحان، فرحان أوي. معايا سيجارة وباشرب شاي"  قالها لي في المقهى حينما طلبت الشاي
وبقيت انظر إليه في حزن، وهو ينظر إليّ في حزن أشد. وفجأة وجدته يشف، يتلاشى، يختفي، يعود إلى زمنه الأصلي. قبضت على الهواء فلم أمسك بشيء. حاولت أن أحتضنه فخنقت نفسي. حفيدي الضائع بعد مائة عام. لكنني سمعت صوته الصارخ من خلف حجب الزمان يستعطفني.. يستحلفني:  
  • أرجوكم اصنعوا شيئا من أجل أحفادكم. ربما لم يزل ذلك بوسعكم. ربما لم يفت الأوان بعد.