أتعس رجل في المدينة

يُحكى أنه في العصور القديمة كانت هناك مدينة عظيمة الاتساع. البعض كان يقصدها للتجارة وآخرون للفرجة، وكثيرون لطلب العلم والاعتبار. ومع كثرة الوافدين والخارجين نشأت سوق مزدهرة يؤمها التُجّار من جميع البلدان. وكان للمدينة- شأن سائر المدن- وجهان. وجه للأغنياء ووجه للفقراء. وجه للنغم ووجه للألم. وجه يُسكب فيه الشراب، ووجه يُسكب فيه الشقاء. وكان كل من أصحاب الوجهين قانعا بحاله فيما عدا كبير التجار.
...............
كان كبير التُجّار ذا ثراء لا يُسمع عنه ولا في الأحلام. تاجر في الغلال والأراضي والجواري، ولولا أن يُوغر صدر الملك عليه لبنى قصرا ينافسه في البنيان. وكان الملك يحبه لحذقه في التجارة، وللجواهر الثمينة التي يهديها إليه، ولأنه كان يجلس بين يديه خاشعا، لا يبادره بالحديث ولا يملأ عينيه منه من فرط الخشوع. وبلغ من مكانته لدى الملك أنه كان يسمح له بالدخول عليه بلا استئذان.

ومرت الأيام بكبير التجار، وهو يرتفع من ذروة إلى أخرى، ومن نجاح إلى نجاح، ولم يخطر على بال أحد أنه أتعس التعساء. نال كل شيء فزهد كل شيء، لدغته حية السأم، وشاع الفتور في أوصاله، والوحشة في قلبه، وكلما تأمل عجزه عن الفرحة فيما يفرح الفقراء بأبسط الأمور حتى يدرك أنه- في حقيقة الأمر- أتعس رجل في المدينة.

كانت أمنيته أن يفرح بشيء أو يتحمس لشيء. المأدبة تُرفع كل يوم دون أن يشتهي الطعام، والجواهر لم تعد تثير شغفه، والجواري لا ينشط لهن، والأموال لا يدري عددها أو فيم ينفقها. والنوم استعصى عليه ولم تُفلح وصفات العطّار. وبدأ يشعر بغربة كاملة عن نفسه وفراغ في موضع القلب.

وفجأة، دون أي توقع، بعد ما يئس تماما من العثور على نغمة ضائعة، أو فرحة عابرة، تغير كل شيء وانقلب حاله رأسا على عقب. كان في مجلس الملك، يشعر كعادته بالسأم والوحشة، دون أن يظهر ذلك على ملامحه أو يسمح لأحد أن يطلع على باطنه، ولولا بقية من حرص، وخوفه من غدر الملك، لاعتزل مجلسه منذ عهد بعيد.

هذه الليلة لم يكن بوسعه التغيب، فملك المدينة يحتفل بملك الجزيرة المجاورة التي تمر عليها تجارته، ولذلك كانت حفاوته به بالغة ومأدبته عظيمة، وصنوف الاحتفال والترحيب لم تشهد لها المدينة مثيلا من قبل. عُلقت الزينات، مُدت الموائد، وأريق الشراب بلا حساب، وعرف فقراء المدينة السعة ومذاق اللحم ولو لليلة واحدة. وأُقيمت الصلوات في المساجد يدعون لملك البلاد وصديقه ملك الجزيرة المجاورة.
في ليلة الاحتفال كان لكبير التجّار، أتعس رجل في المدينة، موعد مع الحب
................
كان واقفا في الصف الثاني خلف الملك، وهو يستقبل ملك الجزيرة المجاورة وحاشيته المقربة، محاولا أن يُسيطر على ملامح وجهه حتى لا تشي بما يعتمل داخله من سأم وعدم اهتمام. شاهد هذه الاحتفالات حتى الملل، وأكل من المآدب حتى الغثيان. حينما جاء الدور عليه صافح ملك الجزيرة وأفراد الحاشية محاولا أن يُكسب يديه بعض الحرارة، وهو يتمنى أن يهرب من القصر ومن المدينة ومن نفسه التي بين جنبيه.

وفجأة شاهدها، تُسدد النظر إلى أرجاء القصر في فضول. غادة لها صفاء الكهرمان، ورشاقة غصن البان، وشعر حريري أسود منهمر كالشلال، وجبهة نبيلة متسعة، وأنف ملكي دقيق، وعينان واسعتان ساحرتان ثبت بصره عليها ثم لم يستطع أن يسترده. اضطرب قلبه بالخفقان. حاول أن يستعيد رباطة جأشه، أن يتنفس، أن يصمت ويصرخ معا، أن يبكي ويضحك في آن واحد. الآن يعرف لماذا تسقط الأمطار وتورق الأشجار وتضحك الزهور؟ الآن يعرف لماذا يغرد البلبل ويجلجل الكروان؟ الآن يعرف لماذا تشرق الشمس ويبزغ القمر وتومض النجوم، الآن يمتزج بالكون نفسه، يمسك بالنغمة الحائرة التي عذبته، بالفرحة المستعصية، بالنجمة المشتهاة. الآن يعرف أن له هدفا واحدا في تلك الحياة.
..............
بعد انتهاء الحقل عاد إلى بيته، وسرعان ما انفرد بالنجوم. قال يا ألطاف الله!، هل أمسكت الحورية بشعاع القمر وهبطت من جنة الرضوان؟. مكتوب عليه آن يقطف أزهار الألم وأشواك الفرح وأحزان الياسمين. مكتوب عليه أن يستقصي أسرار الفجر وغموض الليل وألحان الوجود.
.............
في المساء التالي استأذن الملك أن يقدم هداياه. حينما جاء دورها اختصها بعقد من اللؤلؤ لا نظير له في الروعة والنقاء. تلقّت الهدية في فتور وكأنها فهمت مقصده. ثبّت عينيه في عينيها وأرسل إليها رسائل متوالية: توسّل، تذلل، أعلن الحب، خفض الجناح. قال كل شيء ولم يكتم أي شيء، تبدى النفور في العينين الجميلتين وأدارت وجهها في استياء.

جن جنونه، لم يكن لديه شك أنها تلقت الرسالة كاملة وأشّرت عليها بالرفض. انسحبت في رفق فتبعها مضطرب الخطوات. استدارت إليه وقد تشوه وجهها بالنفور. وبدون أن يتبادلا كلمة واحدة أدرك أنه مرفوض. بدت له الأيام القادمة جحيما من اليأس، استمد من اليأس قوة وضمها إليه. صَرَختْ. كتم أنفاسها بيديه وعيناه تناشدها أن تمنحه الحياة. وحتى اللحظة الأخيرة لم يقرأ في عينيها إلا المقت والنفور. استرخت بين يديه، شعر بالفزع فتركها، تهاوت على الأرض جثة بلا حياة. نظر إليها مذهولا، وسرعان ما أحدق به الحراس.
..............
ساقه الحراس إلى الملك الذي استشاط غضبا، وأصدر أمره بقطع عنقه على النطع مع أول شعاع من أشعة الفجر. اقتيد مُقيدا بالسلاسل إلى القبو. مشى كالسكران بين الحراس وسرعان ما أغلقوا عليه الأبواب. احتوته الظلمة المتراكبة وهواء راكد منذ عشرات السنين. حينما ألفت عيناه الظلام شاهد أشباح المسجونين الذين نسوا الزمان ونسيهم الزمان. مر جوارهم دون أن يبدو عليهم أنهم لاحظوه. منهمكين في عالمهم الخاص خارج حدود المكان.

جلس على أرض الزنزانة الرطبة مستندا إلى جدار. دفن رأسه بين يديه كمن يفيق من حلم. ما الذي حدث؟ وما هذا الجنون؟، راح يسترجع الساعات الماضية وكأنه يشاهد رجلا آخر، أحقا فعل ما فعل؟ عشق وأمعن في العشق؟ أزهق روحا بريئة وتلطخت يداه؟ كل ذلك تم بسرعة خاطفة!، دون أن يتبادل معها كلمة واحدة، أو حتى يسمع صوتها. هز رأسه في ذهول، أمله الوحيد أن يكون ذلك حلما سيُفيق منه الآن؟. يستيقظ فيجد نفسه في فراشه الوثير.
.............
كانت حياته جميلة فكيف أهدرها؟ كان هناك الصباح ودفء الشمس وعطر الأقحوان. وكانت هناك الصحبة والأقارب والخلان. وكانت هناك البلابل والنجوم والأنسام. كيف تخلى عن ذلك كله على مذبح عشق جنوني لم يستغرق سوى ساعات؟ ومن يُعيد الزمن في الاتجاه العكسي وله كل ما يملك من مال وجاه؟ آه أيتها الحياة، أيها اللغز المحير، لماذا ننفقك في سفه ثم يقتلنا الندم على دينارنا الأخير.
........
على هذا النحو راح يفكر. أوغل الليل دون أن ينام؟. ينام! الآن يكتشف أن النوم جريمة في حق الحياة، وكل صباح أنفقه في غير الفرحة حسرة مضاعفة؟ وأن العصافير تغرد أصغينا لها أم لم نصغ؟ والشمس تقيم كل صباح مهرجان الألوان؟. الآن يعرف أن الزهور تُعلن الحب، والنحل واقع في غرام الزهور، والكون ينظر للإنسان بدهشة: لماذا لا يفرح بنعمة الحياة؟.
.................
وجاء الفجر دون أن يشعر به، أقتاده الحراس إلى ساحة المدينة حيث ينتظره السيّاف. وكان أهل المدينة قد ملأوا الساحة وأغلقوا الطرقات. ألقى على الملأ نظره خاوية عاجزة عن الفهم. رفع السيّاف سيفه وهوى به على عنقه، لكنه لم يشعر بشيء.

طار الرأس في الهواء، قبل أن تصل إلى الأرض كان الرأس قد عاش حياة كاملة. شاهدت المطر يهطل بغزارة حتى اختفى المشهد تحت ستارة من ماء. راحت القطرات تهمس له بأعذب الكلمات. ثم انجلى المشهد عن الحسناء تقترب منه في بطء أسطوري، وتقول له: " لا أستطيع أن أعيش بدونك يا حبيبي"، ثم فتح الملك ذراعيه ليحتضنه وهو يعلنه بالعفو عنه، وارتفع هتاف الناس.

ابتسم الرأس في سعادة. كانت تلك الثواني الخاطفة هي أجمل ما عاشه في حياته، قبل أن تهبط الرأس لتتلقاها الأرض برفق في أحضانها الحنون.