اليوم الأخير

استيقظت وقد أُلقي في روعي أن اليوم هو آخر يوم في العالم، وأننا، معشر البشر جميعا، سوف نلفظ أنفاسنا لحظة احتضار الشمس عند الغروب. كان صباح اليوم الأخير لم يشرق بعد. غادرت مخدعي شاعرا بيقظة تامة. ولم أطق أن أُحبس بين جدران أربعة. القشرة الخارجية من التمدن سقط طلاؤها سريعا، وعادت غريزة الأجداد في تلك اللحظات الفاصلة. عشرات الآلاف من السنين التي قضاها الأجداد في أحضان الطبيعة، يتواصلون مع الشمس والقمر والكواكب والنجوم. أرتديت ثيابا قطنية رقيقة تصلح للخروج. وفتحت الباب في لطف، حيث استقبلتني نسمات الليل النقية الباردة، مسحت جبيني وهدهدت على قلبي كأم رؤوم.

كانت المدينة صامتة تماما، وكأنها تتهيأ بالصمت للحدث العظيم. أو ربما تفقه بالغريزة أن حدثا جليلا بمقدار انتهاء العالم لا يليق أن نودعه بالصرخات. وبينما أنا أغوص في الظلمة، تحت نجوم لا حصر لها، والناس يخرجون في صمت من بوابات المنازل، تنفتح البوابات عن لحن باطني وصمت عميق، أطبقت على قلبي ذكريات الماضي فشرعت أتذكر أحداث الأيام القليلة الماضية.
....................
لآلاف السنين ظل البشر تحت وطأة السؤال الحائر:” هل توجد مخلوقات آخرى في الفضاء؟”. وكان لتلك الحيرة ما يبررها. هذا الوجود الفخم، بنجومه وكواكبه وأقماره، أليس مدهشا أن يكون خاويا تماما من أنفاس تعمره، إلا في ذلك الكوكب الأزرق الأنيق. لآلاف السنين ظل البشر يتطلعون إلى السماء، تتدفق الفتنة من جوانبها، يتحيرون، يتساءلون. ولم يكن جيلنا يعلم أنه الموعود بإجابة السؤال.

تخيلناهم في عشرات الصور الممكنة، عن سكان الفضاء أتكلم، لكن لم تخطر ببال أحد الحقيقة البسيطة العارية من التعقيد. لم يخطر على بال أكثرنا جموحا أن سادة الكواكب غير مرئيين. وأن قطع هذه المسافات السحيقة والمجرات المتباعدة لم ينبغي إلا لمخلوقات قطعت في سلم التطور شأوا عظيما. تخلت عن أجسادها المادية، تترقرق كالضوء، تنحني في الفضاء. حتى أصبحت على أعتاب كوكبنا الأرضي، تنساب إلى عالمنا، تستخدم أجسادنا، تسيطر على أفكارنا، تستعمرنا، لنصبح قلما في أيدي أبناء الكواكب، تكتب بنا ما تشاء.

استغرقنا وقتا طويلا في فهم الحقيقة. كان صعبا أن نفهم أن العدو غير مرئي وبالتالي المعركة محسومة قبل أن تبدأ. لكننا أدركنا في وقت واحد أن هناك غزوا حدث، وأن أبناء الكواكب يعيشون بيننا، قادرين على أفنائنا، مطلعين على أحوالنا، يتسللون على ضمائرنا، مكشوفين بالكامل أمامهم. هم موجودون داخل بيتنا، في غرفة نومنا وداخل ملابسنا. لا نعرف عنهم أي شيء وهم يعرفون عنا كل شيء. مصيرنا بأيديهم يحددونه كما يشاءون.

كان واضحا أن المقاومة عبث، فكيف نقاتل عدوا خفيا لا نراه. أكثرنا حكمة تساءل لماذا نعتبرهم أعداء أصلا؟ وما الدليل على ذلك؟ ولماذا لا نستكمل حياتنا كأنهم غير موجودين كالمعتاد! وتشجع آخرون فطرحوا إمكانية التعايش السلمي والحياة المشتركة؟ لكن تلقينا الرسالة واضحة، منقوشة داخل عقولنا، أن الكوكب لا يتسع لنا ولهم، وأنهم سوف يبيدون جنسنا البشري آخر هذا اليوم، لحظة الغروب.
......................
خرج الناس جميعا إلى الطرقات. راحوا يرقبون شروق الشمس وهم يعلمون أنه آخر شروق يراه الجنس البشري. لشد ما بدا الشروق ثمينا ويستحق الملاحظة. كلنا رفعنا رؤوسنا لا نريد أن نفوت لحظة مما نراه. كانت السماء سوداء، ورويدا انبث في الجانب الشرقي ضوء خفيف. ثم بدأ مهرجان الألوان الكوني. وتقدم اللون الأحمر، تخالطه الفضة النقية، جنبا إلى جنب الأزرق الصافي، كأنها الجواهر المذابة تنسكب في السماء. وتدحرجت الشمس الوليدة في الأفق الشرقي. وعلت شقشقة الطيور.

تغريد قصير ما لبث أن أتصل، وتهامست أشباح الأشجار المتلاصقة، وترقرق الندى على الأوراق الخضراء الصغيرة التي نمت أثناء الليل. وتنفس الصبح، وبدأت سائر الكائنات في الاستيقاظ. لم نصدق أن هذا المشهد الكوني الجليل كان يحدث كل يوم، ولكننا كنا نقبع داخل البيوت الاسمنتية، غافلين عن رؤية هذا الجمال الكوني الفريد.

وتدحرجت الشمس على صفحة الأفق أكثر، فتمرغنا على العشب الأخضر، ندفن وجوهنا لنستنشق رائحة الأرض الطيبة، رائحة الشمس وهي تبعث حرارتها في الكائنات. أصبحنا جزءا من ملمحة كونية رائعة، طرنا كالفراش الملون، حلقنا كالعصافير المغردة، تفتحنا كالورود اليانعة، شعت الطبيعة بالسحر فتشربناه كنبتة، لعبنا مع القطط، سابقنا الكلاب. وتعالت تأوهات الدهشة، وأصبحنا ننظر إلى بعضنا البعض، أحقا كان بين أيدينا كل هذا الجمال وانشغلنا بتفاصيل حياتنا التافهة، المحبوسة بين أربعة جدران!.

وتقدم النهار أكثر، وجاءت الظهيرة بدفء أكثر، وانشغلنا بتأمل الوجه البشري، واتقان لغة العيون. وتحدثنا في صفاء، وغفرنا كل الذنوب القديمة، واعترفنا بحماقتنا حين كنا نتشاجر على لا شيء، والكون من حولنا بكل هذا السخاء.

وأقبل الاصيل. وهدأت حرارة الشمس، وتمدد الظل وانسابت نسمات منعشة، وزايلتنا الوحشة وحل الأنس والحب، وأقبل الربيع ينفث أخلاط الزهور. واعترفنا ونحن نستنشق العبير الطيب أننا عشنا في هذا اليوم أكثر مما عشناه في حياتها كلها، وشاهدنا جوانب من الفتنة التي كنا غافلين عنها، ولم يعد أحدنا يخاف من الموت بعد أن عشنا كل هذه الحياة. ولم نعد نشعر بالحقد على أبناء الكواكب، لأنهم سلبونا الحياة. بل شكرنا لهم أنهم أنذرونا قبل المنية وجعلونا نستمتع باليوم الأخير.

وحين بدأ مهرجان الغروب الفاتن، ورسمت الريشة أصباغها الحمراء، ومالت الشمس نحو الغرب، وانفتح الأفق عن تناغم ساحر وفتنة تتدفق. كبرت الشمس واستدارات. وكبرت قلوبنا واتسعت. واشتعلت أشواقنا بالحب وسلمنا بالقدر والمكتوب. وحين غاصت الشمس في الافق وانتظرنا أن يأتي الموت، انطبعت رسالة في أعماقنا من الكائنات الخفية، تقول الرسالة:" لقد أحببتم الحياة فاستحققتم الحياة. عيشوا كل يوم كأنه آخر يوم. عالمكم جميل جدا، هدية الله. ومن حسن أدب العبد أن يحتفي بالهدية حين يمنحها له مولاه".