أبوابٌ موصدة

تبدأ القصة بحلم (أم تراها نبوءة!). كعادة الأحلام تبدو الأمور ضبابية وغائمة وغير واضحة المعالم. الليل قد سقط ظلامه، والطريق شبه خال. وهو يُجدّ السير. كل ما يعرفه أنه في طريقه المعتاد إلى المسجد. وأنه تأخر كثيرا.
كان المصلون خارجين زرافات. كلهم يبدو على وجوههم البِشْر ويرتدون ثيابا بيضاء. وقدر أنه لو أستطاع الوصول في الوقت المناسب أن يجد من يصلي خلفه. تدريجيا بدأ المصلون الخارجون يتناقصون. والمسجد يلوح من بعيد. في العادة لا يحتاج للوصول إليه أكثر من دقيقتين ثلاثة. لكنه يشعر أن المسجد بعيد. وأن أقدامه ثقيلة. وأن أطنانا من الرمال تعوق حركته. يشعر بالذعر. يشعر بالارتباك. وأخيرا وجد نفسه أمام المسجد!
.................
كانت تحبه. من أعماق قلبها تحبه. منذ أن تفتح وعيها على الحياة، وهي تسمع الكل يقول:" هيثم لرشا، ورشا لهيثم". الباب أمام الباب. أمها صديقةُ أمه. أبوها سميرُ أبيه. الجيرة الحميمة حتّمت ذلك، فارق السن المناسب. طفولتها وطفولته. ألعابها وألعابه. حتى مصروفه كان يدخره ليشتري لها الحلوى، تضحك أمها وهي تقبله وتقول:" هيثم لرشا، ورشا لهيثم ".
...........
ويمر العمر بهيثم، يكبر وتكبر رشا. لكن شيئا في داخله يتغير نحوها. يدلف إلى مرحلة المراهقة وتفور الهرمونات القلقة، تُلهمه بطلب الجنس الآخر. لكن رشا لم تزل صغيرة بفيكوتين مُضْحكتين. يبدأ بالتطلع إلى البنات في عمره، ورشا لم تزل تتبعه. حيثما ذهب تذهب، وحين يجلس تجلس، فإذا قام تقوم. وغمزات أشقائه تضايقه، وضحكات الأمهات تستفزه. كانت عيناها طافحتين بالحب، تكتب له الخطابات الرقيقة وتشرح له مشاعرها بالتفصيل. كل ذلك أصبح عبئا عليه، حتى أصبح الأمر كالكابوس. ولم يعد هناك مفرٌ من أن يتجاهلها، ويُسيء إليها، ويُدميها بكلمات قاسية. للأسف أصبح الأمر بحاجة إلى كثير من العنف وقلة الذوق حتى يتمكن من إنهائه.
.........
طوّحته الأيام يمينا ويسارا، أنهكته، أتعبته. في الأعوام التالية عاش هيثم الكثير من قصص الحب. لكنه لم يعثر يوماً على الحب الحقيقي. وكانت رشا دائما في خلفية تفكيره كما هي، بعينيها المغرمتين والفيكونتين. البنت التي تفتح وعيها للحب مبكراً، العاشقة المخلصة التي تنتظره في صبر. لم يفطن هيثم أن الزمان تغير والليل والنهار يتعاقبان. وفجأة، وبينما هو في ركضه الأبدي وراء الحلم سمع الخبر. رشا على وشك الخطوبة.
أربكه الخبر. أدهشه. ولأول مرة يشعر أنه كبر.
.............
الحلم مستمر! الحياة ذاتها حلم! والسير مستمر! الحياة جلّها سير! وفجأة شاهد المصلين يخرجون من المسجد بأعداد وفيرة، كلهم يبدو على وجوههم البِشْر ويرتدون ثيابا بيضاء. أصابه الذعر، انتابه الارتباك.
...........
في مساء نفس اليوم ذهب إليها. شاهدها وكأنه يراها أول مرة. حسناء، هيفاء، ذات خفر وحياء. ولأول مرة يفطن أنه قد مر وقت طويل لم تولّه أي اهتمام. سدد إليها نظرة مشحونة بالمعاني، فلم يبد أنها لاحظته. ولأول مرة تبدت الحقيقة العارية: أنها لم تعد تعبأ به. ثم عرف أنها النهاية حينما دخل شاب وسيم فارتسمت على شفتيها بسمة أخاذة رقيقة، كانت بالأمس له.  
................
باب المسجد ظهر أمامه فجأة. للأسف كان مُوصداً في وجهه وكأنه أغلق من أجله هو، بشكلٍ بدا له نهائيا وغير قابل للاستئناف.