سحر التاريخ


توليت لفترة محدودة تحرير باب " زي النهاردة" في المصري اليوم. وكان طبيعيا أن اقرأ في تاريخ الأحداث التي أكتب عنها. ولم أكن أتصور- وقتها- كنز التاريخ الذي انفتح لي. كنت أعمى فأبصرت، وفقيرا فاغتنيت. كنت جائعا وعطشانا فشبعت وارتويت. ولم أكن أعرف قبلها ضيق العالم الذي أعيش فيه، حينما انهمكت في مشاغلي اليومية، يُطوحني القبح، ويؤلمني الفقر، ويُميتني بؤس الحياة المصرية. متأرجحا بين أمل واهن في الإصلاح وهبوط سريع في مستنقع الفساد. ما أبأس العالم إذا كانت مفرداته العمل وكسب العيش ومشاهدة التلفزيون!.
■ ■ ■
سأظل أدين لهذه الفترة من حياتي بإحساس السعة والتنوع الذي عشت فيه. في هذا الشهر صحبت الهنود الحمر وهم يعبرون الممر بين أسيا وأمريكا في شمال سيبريا قبل عشرة آلاف عام، وهللت مع بحّارة كولومبوس حينما شاهدنا الساحل الشرقي لأمريكا التي كانوا يظنونها الهند. وخضت عباب الأطلنطي مع المغامرين والأفاقين والسفاحين إلى العالم الجديد. وصحبت هرنان كورتيس في طريقه لغزو المكسيك، وأصبحت جزءا من الأسطورة التي جعلت سكان الأزتك يستسلمون لكورتيس بلا قتال بعد أن اسقطوا عليه نبوءة عودة إله الشمس على طوف ومعه الرعد والبرق.
■ ■ ■
في هذا الشهر شاهدت سفن نابليون تمخر عباب البحر المتوسط في طريقها للإسكندرية، وعاينت إحساسه بالزهو وموسكو المتكبرة تجثو تحت أقدامه، وسكنت في عيون غادة روسية تذرف الدموع وموسكو تحترق.
■ ■ ■
في هذا الشهر جلست مع الطهطاوي وهو يتعلم الفرنسية، وقرأت مع محمد علي تقارير أداء المبعوثين في البعثة المصرية، و تجولت مع نجيب محفوظ في أزقة القاهرة القديمة ، واكتشفت مع ماري كوري عنصر الراديوم، وشاهدت أينشتين يكتب النظرية النسبية، وشاركت أديسون في فرحته حين تلألأت المصابيح الكهربائية، وشاهدت الإرسال التلفزيوني وهو يُبث لأول مرة.
■ ■ ■
في هذا الشهر قرأت الفاتحة لطومان باي ثلات مرات كما طلب من الحاضرين وهو يتقدم إلى المشنقة، وترنمت مع مصطفى كامل: "بلادي..بلادي..لك حبي وفؤادي" ، وبكيت على صدر محمد فريد وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في أوربا، وانهمرت دموعي من الفرح والمدمرة إيلات تغوص في الماء.
■ ■ ■
في هذا الشهر شاهدت أفكار ماركس تتجسد في نظرية، وسمعت رصاص البلاشفة يحصد الأسرة الملكية، ورأيت تلاعب الإنجليز بأحلام العرب في الحرب العالمية الأولى، ووعد بلفور المشئوم يتجسد في مستعمرات صهيونية، وبكيت مع استسلام تركيا وإعلان وفاة الخلافة العثمانية، وشاهدت صواريخ كوبا  ينصبها الروس خلسة على الحدود الأمريكية، وحبست أنفاسي مع العالم خشية الحرب النووية.
■ ■ ■
في هذا الشهر شاهدت وشاهدت وشاهدت.
وعرفت أن الوجود البشري تاريخ متصل، وأمواج تسلم بعضها إلى بعضها في تدفق متواصل. وبدأت أغمض عيني وأعيش في عوالم موازية. وعرفت أنني كأجدادي، بالضبط مثل أحفادي. كلنا نفكر في نفس الشيء ونحلم ذات الأحلام ونحمل نفس الأفئدة. وبدأت أفكر في اسم جدي الذي كان يحيا في القرن الثامن عشر؟، في أي مدينة كان يسكن؟، وما هي ذكرياته وأحلامه؟، وبماذا كانت أمه تناجيه وحبيبته تدلله؟ وأين ملاعب صباه ومدارج آماله اليوم؟، وما الذي شعرت به جدتي بالضبط حين جاءها خاطبا؟، وما تقاليد القرن الثامن عشر في  الخطبة والزواج؟، وهل شهد القمر قصة حبهما كما شهد من قبل ملايين القصص؟. وفي كل مرة يظن العاشقون أنهم يرسمون خريطة جديدة للحب، والحقيقة أنها قصص مكررة لكن القمر دائما ما يتسامح مع الغرور البشري.