الندبات

هذا الفيلم (Stigmata) خيالى تماما، لكنه يثير الأفكار العميقة. فتاة عادية كل ما يشغلها هو مواعدة البوى فرند والاستمتاع بالحياة. لسبب غامض تعرضت لتجربة غامضة: تُدق المسامير فى معصمها! بعدها بدأ الجلد الأليم على بشرتها الرقيقة!
بالتدريج تبين الأمر: إنها تتعرض لما تعرض له المسيح عليه السلام فى الإيمان المسيحي! البنت تُصلب وتُجلد! لا أحد يدرى لماذا يحدث لها ذلك؟ صحيح أنه فى الإيمان المسيحى توجد حالات مشابهة فى القرون الوسطى. لكنها تحدث هذه المرة فى العصر الحديث، لفتاة لا تهتم بطقوس الأديان ذرة.
■ ■ ■
يرسل الفاتيكان كاهنا ليتبين الأمر، وإذا بها تتحدث بصوت عجيب بلغة مجهولة، يتبين أنها اللغة الآرامية، اللهجة نفسها التى كان يتحدث بها المسيح عليه السلام. ليس هذا فحسب! بل شاهدها تكتب بلغة قديمة صفحات كاملة على جدار غرفتها. تتكشف أمامه الحقيقة المذهلة: هذا هو الإنجيل الحقيقى الذى كتبه المسيح بنفسه.
■ ■ ■
معلوم أن الأناجيل الموجودة بين أيدينا كتبها تلاميذ المسيح وليس المسيح نفسه. هذه الفتاة- لسبب غامض- تتخلى عن ذاتيتها، وكأن المسيح عليه السلام قد تجسد فيها، يكتب بيدها وينطق بلسانها. المنطقى والمفترض أن يرحب الفاتيكان بظهور الإنجيل الحقيقي! أليس كذلك؟
لكن المشكلة الكبرى أن هذا الإنجيل يبدأ هكذا: «وقال المسيح: مملكة الله داخلك، والكل من حولك، ليس فى بنايات من الخشب والحجارة، شق الخشب وأنا هنا. ارفع الحجر وسوف تجدنى».
هذا معناه تقويض كل الكنائس. هدم كل المؤسسات، كل المبانى، كل الحجارة والتماثيل والبخور والطقوس. لذلك يحاولون قتل الفتاة وطمس الإنجيل الحقيقى.
■ ■ ■
أعود فأقول: هذا الفيلم خيالى تماما. وكل ما فيه لم يحدث قط. لكنه يثير التأمل من وجهة نظر معينة: «ترى هل يرحب رجال الدين بظهور الحقيقة إذا كانت فى غير صالحهم؟».
أذكر مقالا قديما للعقاد، طرح فيه السؤال التالى: «ماذا لو عاد الرسول للحياة يوما واحدا؟» أول ما فكر فيه العقاد أنه سيحسم كل الأحاديث المنسوبة إليه، فيقول ببساطة: «قلت هذا، أو لم أقله».
على أن العقاد لم يتطرق إلى شىء أخطر: هل سيتحمل علماء الدين الحقيقة؟ افترض- مثلا- أنه قال: «أنا لم أوص لعلى بن أبى طالب، ولكنى تركت الأمر للمسلمين من بعدى».
تخيلوا ماذا سيحدث وقتها! كل هذا البناء الكامل المتكامل، الذى شُيد عبر قرون من عصمة الأئمة وغياب المهدى وانتظاره والخُمس والطقوس والملاحم والبكائيات، هل سيرحب الملالى بهدم كل ذلك، لمجرد أنها ليست الحقيقة؟
وافترضوا معى العكس أيضا: هل سيقبل السنة ذلك ويغيروا من معتقداتهم التى خاضوا من أجلها معارك عقائدية طاحنة؟
■ ■ ■
أيضا هل كان العقاد واعيا أن ذلك سوف يهدم علم الحديث والجرح والتعديل والعنعنات والمرويات؟ وما اشتبك من أجله أهل الحديث مع المعتزلة والأشاعرة؟ والأسماء والصفات، هل تأول أم نعتقدها على حالها؟ وغيرها من المعارك العقلية التى استنزفت عقول المسلمين قرونا؟ وملايين أضاعوا أعمارهم فى التحزب لذلك الفريق أو ضده؟
أتعتقدون أن رجال الدين سيقبلون الحقيقة لو كانت عكس معتقداتهم؟ حتى لو أخبرهم الرسول بذلك؟
■ ■ ■
فى البدء يكون الهدف المعلن هو الوصول للحقيقة. لكن الحقيقة تحتاج كى تصل إليها أن تشيد بناء هائلا من طوابق كثيرة. ثم يصبح البناء نفسه هو الهدف، وليس الحقيقة. والكل يرفع شعارات، هذا من أجل المسيح وذاك من أجل النبى. وكلهم يريدون أن تظل الأوضاع على ما هى عليه، ولو طُمست الحقيقة.