فتاة الخوف

أرجو ألا يفهم أحد من نشرى لتلك القصة المميزة لـ«جهاد الحلبى» أننى ضد زى المرأة الذى يُسمى بالحجاب. لكننى بالتأكيد ضد القهر وضد أن يصبح الزى المحتشم جزءًا من قهر المرأة.
عاشت أمى الخوف بكل ألوانه، خافت على أبى من مرضه إلى أن وافته المنية. زَرعت فىّ الخوف وكبرنا سوياً. وكنت أذهب لأصفف شعرى لأنه خشن، خشن جدًا. ولكن بعد الحيض الأول فى الحادية عشرة من عمرى، أخبرت أمى، حينها لم تنطق إلا بكلمة واحدة «اتحجبى».
لم أعلم لِم لمْ تُهدئ من روعى؟ لم أرغب فى الحجاب ورفضت، ولكنها كانت صارمة إلى حد كبير: «أمى ممكن تسمعينى؟ أنا مش عايزة أتحجب. أكيد حييجى يوم واتحجب، بس بلاش دلوقت. خلينى زى صحابى ولما هدخل الإعدادى حلبسه». «لأ، هتتحجبى ودلوقت». «لأ، مش حتحجب». «براحتك بس مش حاديكى فلوس تروحى للكوافير. خليكى كدا بشعرك الخشن دا».
خشن! إحدى عشرة سنة لم تقل لى أمى هذه الكلمة! وكأنه عار حان وأده! واجهت - ولأول مرة - الخوف، حاملة ليلا غير ممهد على رأسى. ذهبت للدرس، وحين رآنى أستاذى سخر منى وضحك. وحين قهقه زملائى نهرهم بشدة. كانت عيونهم تحدق بى وكأننى آتية من زمن آخر. مدة الدرس لم تتجاوز الساعتين ولكنها كانت كدهرين فى حدق الشمس مباشرة. رجعت للبيت وأصبت بحمى رافقتنى عشرة أيام، اضطررت حينها أن أرتدى الحجاب. عندئذ كرهت كل ذات شعر. بعدها لم أجرؤ على خوض أى مواجهة واستسلمت لما زُرع وترعرع فىّ. رغبت كثيرا فى السفر لأكمل دراستى وأيضا كعادتها رفضت. لكن ما أفجعنى حقا أننى وافقت. آه لو تركتنى لنفسى لوجدتنى رافضة، لأننى أخاف أن أسافر وحدى، أخاف أن أفكر، أقرأ، أعيش، أتنفس وأحب، فتاة خوف ليس أكثر.
وحين أخبرت أمى بذلك قالت: «يا بُنيتى خوفى من خوفك، وخوفك بعض خوفى».
كانت تخاف الظروف والناس والزمن الذى لا ينصف امرأة تعيش بلا رجل. ثم خافت أمى علىّ وعلى ابنتيها اللتين تصغُرانى بتسعة أعوام، وخافت من المرض بكل أنواعه، حتى البسيط منه، كألم الرأس أو دوار الصباح، وحده السرطان لم تكن تخشاه لأنها لم تكن تتوقعه. كان هذا المرض بعيدا عنها حتى باللفظ: «العيا ده ربنا يبعده عن الناس كلها».
وبعد معاناة مع الحياة و«البعيد» تجرعت والدتى جرعة زائدة من الموت. توقفت الحياة وسكنت. لم أكن أعلم أننى رغم تجاوزى عامى الأول بعد عقدين، كنت ما زلت برحم أمى لم يُقطع حبلنا السُرى الذى يَربطُنا، كنت أتغذى على أنفاسها وأفكارها وخوفها السرمدى. وقبل أن تتحلل والدتى جاءت إحدى صغيرتىّ وقالت: «لقد نزفت»، قلت لها: «اتحجبى»!!!