هتشكوك الذى أهانه الحب

هتشكوك مغرم بالشقراوات! العالم كله يعرف هذه الحقيقة. لذلك لم يكن غريبا أن تنفتح أبواب هتشكوك المغلقة عندما دخلت عليه «تيبى هيدرن» الغرفة، بالضبط مثلما تنفتح أكمام الزهرة لقطرات الندى.
■ ■ ■
هيفاء، شقراء، رشيقة القد، فارعة القوام، بالضبط كما يحبها هتشكوك بالضبط. لم تكن أكثر من عارضة أزياء تلقت اتصالا هاتفيا لعمل مقابلة فى هوليوود. لكن لم يخطر ببالها قط أن يكون لقاؤها مع أعظم مخرج فى تاريخ السينما: هتشكوك شخصيا. وحتى بعد لقائه معها لم تتصور أن يختارها من بين الجميع، لتكون بطلة فيلمه المقبل: الطيور.
وأنى لها أن تعلم أن هتشكوك كان يشعر بفراغ فى هذا الوقت بعد زواج بطلة أفلامه الشقراء الفاتنة «جريس كيلى»، والتى أصبحت أميرة موناكو!
كانت المفاجأة فوق قدرتها على التحمل فانخرطت فى البكاء. هل تعرف ماذا تعنى أن تكون بطلة الفيلم الأهم لهتشكوك؟ إنه ذروة المجد، أن أسمها سيُحفر للأبد فى تاريخ السينما، إنها ستصبح نجمة النجوم ما بين يوم وليلة.
وعدته -وهى تبكى- أن تكون كالصلصال بين يديه. هذه الجملة التى لمست قلب هتشكوك الرجل.
■ ■ ■
هكذا بدأت الحكاية. حين لم تنتبه أن هتشكوك اللحم والدم يقبع خلف هتشكوك الرمز. ظلت تعامله كأنه العملاق الذى يعرف كل شىء. ويوجه الكاميرا ويقطع اللقطات ويعلم الأسرار الخفية. لم تكن تتخيل أن هتشكوك اللحم والدم، بكل ذرة فى كيانه، يريدها.
أكثر الأشياء مهانة أن يفقد كهل إرادته ويتحرش بفتاة فى عمر بناته. وتكون المأساة مزدوجة حين يكون عبقريا تنظر إليه الفتاة بمهابة باعتباره رمزا. هى لا تريد أن تصدق أن أعظم مخرج فى تاريخ السينما يراقبها، ويشتعل بالغيرة حين يراها تباسط الممثل الوسيم المزاح.
التفاصيل صعبة ومهينة ومؤلمة لكل عشاق هتشكوك. هتشكوك الساحر الذى صنع من الرعب أنشودته، هل تتخيل أن يحاول تقبيلها عنوة حين انفرد بها فى السيارة، فلا تجد أمامها سوى أن تدفعه بعيدا عنها مثلما تدفع الفتاة أى عجوز متصابٍ شهوانى!
وإنه ليعاملها بخشونة حين لا تستجيب له. يعرّضها لأخطار لا لزوم لها. وإنه ليعيد تصوير مشهد هجوم الطيور الجارحة عليها- صدق أو لا تصدق ٤٥ مرة- فتملأ الجراح وجهها الجميل لا لشىء سوى أن يؤذيها. تصرفات لا تليق بمثله، دون أن يعلم أنه -فى لحظة انهيار أستاذيته- سوف يتحول إلى مجرد عجوز أصلع بدين لا يمكن لحسناء مثلها فى مقتبل العمر أن تمنحه قلبها مهما فعل.
استولت عليه رغبة عمياء أفقدته توازنه النفسى. أمسى لا ينام الليل. أصبح يلاحقها بالهاتف كمراهق. صار مستعدا للتنازل عن مجده كله، وكل الأفلام التى صنعها، مقابل شىء واحد: أن يعجبها!
■ ■ ■
أى مهانة يُعرّض لها الكبار أنفسهم حين ينسون وقار كهولتهم ويفقدون هالة الاحترام التى نالوها بحكم العمر والمكانة؟
المشكلة أن هتشكوك – مثل معظم الرجال- لم يصدق قط أنه كبر. المشكلة أنه لم ينظر إلى المرآة بعناية. وأحيانا تضلله المرآة فتعكس له، بدلا من صورته الحالية المثيرة للشفقة، صورته القديمة: حينما كان شابًّا لامع العينين نضر الوجه غزير الشعر.
هتشكوك لم يخطئ. المرايا هى التى أخطأت. هى المسؤولة الحقيقية. فحذارِ حذارِ من المرآة حين تتطلع إليها. المرايا كلها مسحورة ولا يمكن الوثوق بها، إنها لا تعكس لنا أبدًا صورتنا الحقيقية.