رجل لكل العصور

أعرف نفسى جيدا، ولا تخالطنى أى أوهام عنها. لست من أصحاب الهمم العالية والنفوس العظيمة، ولا أقوى على تحمل تبعاتها. أقصى ما أطمح إليه- بنفسى الضعيفة المنهكة- ألا أساند الباطل أو أطبل له. يسعنى الصمت حين تصبح الكلفة باهظة، أو هكذا أعتقد. لذلك رحت أشاهد فيلم «رجل لكل العصور» وأنا فى غاية من التأثر.
■ ■ ■
هذا الفيلم البديع المتقن A man for all seasons الذى تم إنتاجه عام ١٩٦٦، واكتسح ست جوائز أوسكار، أدعوكم جميعا لمشاهدته. فكرته تدور حول قصة حقيقية، لسيرة حياة «توماس مور»، ذلك القانونى الفذ الذى دفع ثمنا باهظا من أجل مبادئه. عاش فى القرن السادس عشر، معاصرا للملك هنرى السادس.
الحكاية ببساطة أن الملك هنرى الثامن كان يريد أن يطلق زوجته ويتزوج عشيقته على أمل إنجاب وريث للعرش. «توماس مور» لم يعترض. لم ينصب نفسه ثائراً فى مواجهة الملك. كل ما هنالك أنه صمت! رفض أن يتطوع بالتبريرات الملفقة كما فعل غيره. لكن ديكتاتورا جموحا مثل هنرى الثامن لا يقبل بالصمت، إنه يريد موافقة صريحة من الشخص الوحيد الذى يحترمه فى هذا العالم «توماس مور».
■ ■ ■
تودد إليه الملك! زاره فى بيته! حدثه عن المتاعب المقبلة إذا لم يتم إنجاب وريث للعرش. سوف تتشرذم المملكة. سوف تنشب الصراعات الداخلية. أتريد- يا توماس مور- أن ينشب صراع فى المملكة؟ أتريد أن يعانى الشعب؟ صحيح أن قرار الطلاق غير دينى وغير قانونى، كونه رئيس الكنيسة. ولكن الهدايا تفعل الأعاجيب! والفاتيكان يمكن شراء موافقته! يا أخى لا تكن (حنبلياً)! وافق على الطلاق وسيمر الأمر!
■ ■ ■
ولكن توماس مور لا يتكلم! لا يحرك لسانه بالرفض ولا بالموافقة. الأمر الذى يغيظ الملك الذى لم يتعود على عدم إطاعة أوامره. ثم إن صمته يعنى الرفض، بل أسوأ من الرفض! يعنى الاحتقار التام! يعنى انتفاء المشروعية!
الملك غاضب! الملك يريد أن ينتقم! الملك يوعز بتقديمه للمحاكمة بتهمة «الخيانة العظمى».
لاحظوا معى كيف تُستخدم تهمة «الخيانة العظمى» لكل من يعترض مشيئة الحاكم؟
■ ■ ■
ابنته لا تفهم. زوجته لا تفهم. زوجته تصارحه بأنها تخشى أنها سوف تكره بعد وفاته. لماذا تموت وتتركنا من أجل سبب تافه؟
كنت أشاهد الفيلم، ودموعى تسيل منى، وأنا أخاطبه كالمجنون: « أيها الأحمق قُلها. الطلاق مشروع. إنها مجرد كلمة. لماذا تموت- أيها الأحمق- من أجل لا شىء؟ ولماذا تترك جرحاً نازفاً فى قلوب الأحبة؟ وتمكث فى سواد السجن منتظرا قطع عنقك؟ ما الفارق بين أن يطلقها أو لا يطلقها؟ أنت تعلم أنه زانٍ أصلاً! أنت فى القرون الوسطى أيها المأفون! حيث للملك حق إلهى! والشعوب الجائعة لا تجد من يطعمها. «جت على دى يا سى توماس مور؟» انطقها وعد إلى بيتك! انطقها! أرجوك أن تنطقها!».
■ ■ ■
لكن توماس مور لم ينطقها. أصر على موقفه الشامخ. الكلمة تستحق أن تدفع حياتك فى مقابلها. الكلمة ليست حذاء تلبسه وتخلعه. الكلمة هى أهم شىء فى العالم. الكون نفسه خُلق بكلمة! فكيف تهينها إلى هذا الحد؟
الكلمة هى احترامك لنفسك. إنها الفيصل بين الكرامة والوضاعة، بين النبل والحقارة!
■ ■ ■
وبالفعل، دفع «توماس مور» حياته ثمناً لكلمة. لكنه فى الوقت نفسه أداننا جميعا. عزائى الوحيد- إن كان ثمة عزاء- أننى، وإن لم أكن من أصحاب الهمم العالية والنفوس العظيمة، لم أزخرف الباطل فى عقول الناس، وأنا أعلم.