زوربا القاسية

ها أنا ذا أهرب من الألم بالكتابة. أحاول أن أتخفف من شحنة الوجد التى أصابتنى بعد مشاهدة فيلم «زوربا اليوناني».
لم أكن أحمل لهذا الفيلم إلا الذكريات السعيدة. لم أتهيأ- وأنا أشاهده- لقسوته. شاهدت القصة ثلاث مرات. المرة الأولى وأنا صغير حينما كانت تتحفنا الفاتنة درية شرف الدين بنادى السينما. والمرة الثانية شاهدته فى نضوج العمر فى صورة «أوبرا» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية العامرة. وهذه هى المرة الثالثة والمؤلمة.
الفيلم أبيض وأسود. من إنتاج عام 1964. بطولة العبقرى «أنتونى كوين». كنت أذكر الشخصية البوهيمية لزوربا اليونانى. الذى يعمل فى كل شىء، ويتحمس لكل شىء، ولا يبالى بالمال وكل ذلك المتاع الذى يقطّع قلوب البشر. ذلك الكهل الغامض الذى يبدو لك سطحيا ثم تتبين أن له فلسفة عميقة، محورها حكم الملك سليمان المذكورة فى التوراة: قبض الريح. الكل إلى زوال. كل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر ليس بملآن، وهذا الصراع المحموم سينتهى بالموت.
وكنت أذكر مشهد الرقص على شاطئ البحر برغم أن أعواما لا أذكر عددها قد مرت منذ شاهدت هذا المشهد. هو والأمريكى (كما يطلقون عليه برغم أنه نصف يونانى نصف إنجليزى)، بعد أن فقدا كل شىء، منجم الفحم والنقود والحب، فإنهما راحا يعبران عن (قبض الريح) بالرقص على شاطئ البحر على خلفية من أنغام اللحن المميز.
وكنت أعلم أيضا أن هناك قصة حب نشأت بين الأرملة الحسناء والشاب الأمريكى. لكن التفاصيل كانت فى منتهى القسوة.
القرية اليونانية الفقيرة جدا تشبه أى قرية مصرية بائسة حتى فى ملامح رجالها ونسائها. تقريبا يوحّد الفقر بين الوجوه البشرية. وهناك فى هذه القرية أرملة شابة حسناء يشتهيها الكل ويتحرشون بها، لكنها تتجاهلهم فى كبرياء وتمضى فى طريقها، يعذبهم الاشتهاء ومرارة الرفض. هذه الأرملة الحسناء تقع فى حب هذا الشاب الأمريكى من أول نظرة. آه لو رأيتم ابتسامتها الخافتة ولمعان عينيها حين منحها مظلته كى تحتمى بها من الأمطار المنهمرة. وفى بيتها النائى القائم على جبل كانت تقف خلف الشباك، يتلاعب الريح بالستارة الرقيقة التى تظهر وجهها الصبوح فى غلالة من الأنوثة والرقة. تمنحه قلبها الرهيف، تحبه، تنتظره.
كان لقاؤهما فى بيتها لا يُوصف. انخرطت الأرملة الحسناء فى البكاء المرير، ثم هدأت بين أحضانه. انتشر الخبر فى القرية. انتحر الشاب المتيم بها. تواطأت القرية على ذبحها. حاصروها. ذبحوها بسكين بارد. حاول زوربا الشجاع أن يتدخل. المؤلم أن الشاب الأمريكى الذى عشقته وماتت من أجله لم يحاول الدفاع عنها. الرجل الذى أرسلت جدائل شعرها الأسود الحريرى، وحين مد يدا مترددة ليربت على شعرها ألصقت خدها بيده. ووهبته نفسها بلا ثمن مثلما تهب الشمس دفئها. ومع ذلك كله جمده الجبن وتركهم يذبحونها.
لم يؤلمنى قتلها بقدر ما آلمنى تخليه عنها. ولم يؤلمنى تخليه عنها بقدر ما آلمنى أن القرية واصلت بعدها حياتها الطبيعية. ماتت الحسناء وكأنها لم توجد. حتى عبيط القرية التى كانت تعطف عليه، والذى انحنى بجوار جثمانها باكيا ومنتحبا، فإننا شاهدناه فى اللقطات التالية يقفز من السعادة.
وفى مشهد الختام تأتى الخلاصة: الحياة قاسية، ونحن أقسى من فيها. وحتى رقص زوربا لا يحل المسألة. إذْ ما معنى أن نتخلى عمن نحب ثم نقول إن الكل قبض الريح ونرقص بعدها؟