قصتان قصيرتان

يهدى الناقد والروائى د. زكى سالم قراء هذا العمود هاتين القصتين الإنسانيتين المؤثرتين اللتين تتناولان تيمة تلك التغيرات المدهشة والمحزنة، والتى لا يمكن تجنبها، بفعل مرور الزمان وتقلب الأيام.
■ ■ ■
أستاذى
د. زكى سالم
ما أجـمل العودة إلى البـيت. ففى هذه الشرفة عشـت أسعد أوقات حياتى. حين كنا نجتمع جميعا، أنا وأبى وأمى وأخوتى. كل منا يحكى عما حدث له خلال يومه. وكل منا يشعر بالآخر ويـحبه. نتسـامر ونضحك حتى ونحن نتناول الطعام. والآن ها هى أمى تعيـش وحـيدة. بعدما رحل أبى، وتـفرقنا جميعا من أجل لقمة العيش. وكلما عدت فى إجـازة أسـرع مشتاقا إلى أمى، وإلى هذا البـيت الـجميل. أجلس السـاعات الطويـلة فى هذه الشـرفة الـحبيبة. أسـترجع الـذكريات، وأتـأمل فـى هـذه الـحياة الدنـيا.
■ ■ ■
واليوم وأنا أشـرب الشاى بالشـرفة، رأيت رجلا ومعه صبى يتحاوران أمام محل عم محمد الجزار. إننى أعرف هذا الرجل جـيدا. إنه الأسـتاذ «سعيد منصور» مدرس الرسـم. هذا رجـل لا يمكن أبدا أن أنسـاه. تركت الشاى، ونزلت لأسـلم عليه. أسـرع إليه، وأنا أسترجع كلماته التى تفتح وعيى عليها. فهو أول من حدثنا عـن أهـمية الكتـب، والموسـيقى، واللوحات الفنية. وهـو أول من كلمنا عن دور الثـقافة فى نـهضة الشـعوب وتـحررها. هـو من علمـنا معنـى الديـمقراطية الـحقيقية، ونـبهنا لدور الديكـتاتوريات العسـكرية والقبليـة فى تـخلف منطقتنا العربـية.
وعندما كنت أتذكره طوال هذه السنوات الماضية، كنت أتصوره وقد أصبح فنانا مشـهورا يحادث الناس عبر وسائل الإعلام، ويشرح لهم العلاقة بين الفن والـحرية. بينما معارضه ولوحاته الفنية تدور حـول الكرة الأرضيـة.
■ ■ ■
وصلت إليه داخل محل الجزارة. سـلمت عليه بـشوق حقيقى، ولكنه بالكاد تذكرنى، وأرتبك بشدة وأنا أقول لعم محمد هذا أستاذى. إنه مازال يعمل فى مدرستى!، سـألته بسـذاجة إن كان أقام معارض فنية؟، فقلب يديه وعلى وجهه ابتسامة حزينة!، كنت أتـمنى أن أحادثه عن أشـياء كثيرة. فدعوته مع ابنه لزيارتى لكنه اعتذر. إذ كان يبدو عليه الارتباك الشديد والقلق العميق. أهذا حقا أسـتاذى الفنان الذى كان يعلمنا؟‍!، وجدت عم محمد يزن نصف كيلو مليئا بالدهون، فمددت يـدى- بلا وعى- أزيـحه، وسألته إن كان أعد لى اللحم الذى طلبـته؟، قال: نعم. فأخـذته، وأعطيته للصبى وأنا أقبله، وقلت لأستاذى إننى أسكن هنا، وفى انتظار أن يـشرفنى.
تـمنع الرجل بصدق، وأنا أقول لـه إن النبى قبل الـهدية. لـكن تشـبث ابـنه باللحم أنـهى الـمجادلة. وأنا أشـد على يـده رأيت علامات الـفرح والسـعادة على وجـه الصبـى، بينما الدمـوع متحجرة فـى عينـىّ أسـتاذى!.
■ ■ ■
الأب والابن
د. زكى سالم
يقـود الأب السـيارة بعصبيـة، بينما الابن يجلـس إلى جـواره، يهز رأسـه بـعلامة الـموافقة بطريقة آليـة، وهو يسـتمع إلى ما يقوله الأب بجـدية، وصرامـة، وحـسم، عن ضرورة أن يلتـزم بـكل القواعـد والتعليـمات التى تقررها إدارة المدرسـة الداخليـة.
ويـمر الزمـن فى سـرعة الـبرق!، ويجلـس الأب فى السـيارة إلى جـوار الابـن الذى يقودها بضـيق، وعصبية شـديدة!، ويأخذ الأب فى هـز رأسـه بطريقـة آليـة، بيـنما يحـدثه الابن عن ضـرورة الالتزام بـكل قواعـد وتعليـمات دار الـمسـنين.