قصتان قصيرتان

"ست الناس"
أحمد خليل (طالب بطب القاهرة)

"ست الناس" هو اسمها كما اعطته لي في التاريخ المرضي وهي تبتسم في حياء. عجوز، سمراء، قصيرة القامة ترتدي عباءة سوداء. وجهها المستدير تجعد واقتربت أركانه من بعضها البعض.
أمسكت يدها الخشنة المتشققة لأفحصها، فتبرر "ست الناس" قائلة: "الأيد دي شافت الشقا من ساعة ما وعيت علي الدنيا يا ولدي".
"ست الناس" تعمل خادمة أو "بتساعد الناس" كما تقول. تنتمي لفصيلة الإنسان المستكين، ترضى باللا شيء، لا تعتبر أن لها حقوقا ولا تتمنى من الدنيا غير (زيارة حبيبي النبي قبل أن أموت).
..............
"ست الناس" تشعر بتورم في ثديها، تذهب لطبيب الوحدة، الذي يرسلها للمستشفى المركزي في مدينة الأقليم. يقولون لها (أطلعي على القصر العيني يا حاجة).
لكن المسافة بعيدة والعين بصيرة واليد قصيرة ومصاريف السفر "ياما"، وهي لا تشعر أنها مريضة إلى هذا الحد، فتقول لنفسها "شويه والكلعيعة دي تروح).
يعيث المرض فسادا في جسد ست الناس الهزيل، ويغزو المزيد والمزيد ماداً أركان إمبراطورتيه، وحين يتقرح الثدي تستسلم "ست الناس" وتشد الرحال لقصر العيني. يخبرونها أنها سوف تُحجز فتطيع. يمر الطبيب ويأمر بالتحاليل، فتسحب الممرضة عينة الدم وترمي لها قطعة من القطن آمرة" دوسي كويس"، فتدوس.
يصحبونها لعمل الأشعة ويصحبونها لحجرة الدرس حيث يتعلم الطلبة كلما احتاجوا "حالة البريست Breast". وست الناس صامدة على مبدأها الأساسي (جعلوه فانجعل)، لا تبدي أي اعتراض. تُخبر أن عليا الصيام فالعملية غدا، فتدعو الله وتستحلفه بحبيبه النبي، عليه الصلاة والسلام، أن تقوم بالسلامة. لم يخطر ببالها قد أن تسأل عن طبيعة العملية ولم يخبرها أحد. حينما أفاقت تيممت من الجدار المجاور لسريرها ووضعت يدها علي صدرها لتصلي كالمعتاد. لكنها هذه المرة شعرت بأن هناك شيئا ما ينقصها. لقد أزال الاطباء ثديها!
في أعماق ست الناس كان هناك بصيص أنثي يدرك ماهية الثدي للمرأة. هذا البصيص جعل ست الناس تدمع وهي التي فشل الزمان في انتزاع دمعة منها رغم حربه الضروس!
............

أما القصة الثانية فعنوانها: "أنشودة حزينة"
د. أحمد شوقي
جارتي في الحارة. تكبرني بعشرة أعوام. لها رصيد من الجمال جعلها أميرة الحارة. والدها رجل صعب. شراسته وعنفه بلا حدود. يمضي نهاره في عراك مع أهل الحارة. وقلّما سلم أحد من اذى الرجل.
وأمها رحلت مبكرة. سرطان رحم من نوع وراثي نادر.
..........
هناء أميرة حزينة تحمل عبء أخوتها وعبء والدها الشرس وعبء أمها التي رحلت دون وداع.
ويقرع الباب العرسان. هي جميلة والرجال يحبون الجميلات. لكن هناء كانت زاهدة في الزواج. ظلت ترفض وترفض حتى أقسم والدها ان يزوّجها اول من يقرع الباب. وتزوجت بالفعل لكن الزوج أسوأ من الوالد، يسرق ويتاجر في المخدرات.
وغابت هناء عن حارتنا ومرت أعوام دون أن نسمع عنها خبرا حتى عرفنا أنه تم القبض على زوجها في قضية مخدرات. كان والدها قد رحل بعد مرض شديد. تليف كبد وغيبوبة كبدية تسلمه للصراخ ليلا.
عادت هناء لحارة، زهرة ذابلة وأنثي جريحة وفقر باق وسمعة ضائعة وكرامة مهدورة.
زارتني هناء بصفتي كطبيب. الورم الوراثي النادر الذي أغتال أمها تسلل إليها، بين يوم وليلة تغير الحال. جراحة ثم كيماوي ثم إشعاع.
زهرة حزينة. زهرة تتساقط أوراقها. في الخمسين ماتت هناء. أنشودة حزينة دامعة. وكانت وصيتها ألا تدفن مع والدها..
وقد كان..