فاطنة

أترككم اليوم مع هذه القصة الجميلة للأديب علاء حمودة:
■ ■ ■
كنت فى محطة الرمل، على البحر مباشرة. أستنشق هواء البحر وأحتسى كوب الشاى من شاب سرّيح، لحظتها وجدت رجلا عجوزا جدا، أظنه قد تجاوز الثمانين، يمشى بعصا، ويرتدى ربطة عنق وكاسكيت وبالطو صوف فوق ملابسه برغم أننا كنا فى شهر مايو. نمط يشبه شيرلوك هولمز فعلا. جاء جانبى ثم وقف فى صمت.
شعرت أنه يفتش عن الصحبة الآدمية. فابتسمت له ومددت يدى بكوب الشاى فهز رأسه بعلامة الرفض، ثم قال لى: «أنا واقف أرتاح شوية لأنى مشيت كتير جدا. ركبت الأتوبيس من فيكتوريا.. وكل محطة أنزل ألف. وبعدين أركب الأتوبيس تانى لحد ما وصلت هنا».
■ ■ ■
مرت سيارة ينبعث منها أغنية لعمرو دياب بصوت عال. قال فى ضيق: «خلاص.. راحت أيام زكريا أحمد (ورص لى ثلاثة أسماء مطربين لم أسمع عنهم فى حياتى) وخلاص دلوقت بقى الشباب المايع اللى زى (محمد رشدى) و(محمد قنديل)»!
سألته: «ليه بتلف على رجليك كل ده؟». فمد يده لأساعده على تسلق سور الكورنيش وجلس. قال: «أنا ححكيلك الحكاية. من ييجى ٦٦ سنة.. قابلت مراتى (فاطمة)- فاطنة- كانت عيلة ساكنة قصادنا جديد مع أهلها.. وأول ما سكنوا. قامت الست أمى الله يرحمها عملت (مفروكة) باللوز والقشطة. وبعتت لهم طبق. يقوموا هم ميبعتوش الطبق فاضى عشان دى عيبة.. فيبعتوه فيه رز بلبن.. فأمى ترجعهولهم فيه بقلاوة بالقشطة فيرجعوه فيه سد الحنك».
كانت أول مرة أسمع عن «المفروكة». ولا أعلم حتى الآن ما هى.
صمت قليلا ثم قال: «كانوا بقى يبعتوا الطبق مع فاطنة. أنا شفتها وعجبتنى. كانت عيلة صغيرة. أنا كمان كنت عيل. بس عيل راجل.. يعجبك».
واتجوزت فاطنة وخلفنا «وذكر مجموعة أسماء لرجال ونساء».. وكلهم اتجوزوا وخلفوا وفتحوا بيوت. قلت فى إعجاب: «هايل».
صمت قليلا ثم قال: «عمرها ما ضايقتنى.. بقالى ٦٦ سنة.. أقلع هدومى وسخة ألبسها نضيفة. أفكر فى الأكل اللى نفسى فيه. ألاقيها عاملاه لوحدها. أبقى متنرفز تسكت وتحوش العيال بعيد عنى. أبقى مبسوط تضحك.. كل أسبوع كانت بتعمل لى (كيكة).. و(تدبق) من مصروف البيت مش عشان تجيب حاجة لنفسها، عشان تعملى الملوخية اللى بحبها فى البشاير».
هززت رأسى وقلت له فى تعاطف: «الله يرحمها». انفعل فجأة: «يا ولا الملافظ سعد. جتك البلا فيك وفى شكلك.. ربنا يديها طولة العمر». ارتبكت: معلش أنا آسف أصل حضرتك بتقول «كانت».
قاطعنى: «كانت ومازالت ولسه حلوة يا ولا. وزى الفل».
وبعدين قال لى فى أسى: «أنا امبارح زعلتها منى شوية فقلت أنزل أصالحها. أصل فى هريسة كده مقرمشة من الحروف بس طرية من القلب. وفيها بندق ولوز. هى بتموت فيها فأنا نازل اجيبهالها».
قلت: «وبتجيبها منين؟».
قال لى: «من عند واحد فى فيكتوريا بس لقيته قافل، فقاعد أدور على حد غيره».
لا أدرى كيف عرضت عليه أساعده! وكيف وجدته بجوارى فى السيارة وأدور به فى شوارع إسكندرية باحثين عن هريسة مقرمشة من الحروف بس طرية من القلب ومع ذلك فيها بندق ولوز.
خمسون محلا على الأقل طفنا بها. واستهلكنا نحو خمس ساعات فى التطواف. لكن لم تعجبه أى واحدة منها.
■ ■ ■
فى النهاية وجدت طلبه عند «الطيبين» فى بحرى. وطلب منى أوصله لمكان قبل بيته كى يتمشى قليلا!
وشرعت أرقبه وهو يحتضن علبة الهريسة فى سعادة حتى اختفى عن ناظرى.