متى تقوم لمصر قائمة؟

الفيلم بدأ ألعن بداية ممكنة. «لارى فلينت» الذى بدأ حياته العملية بافتتاح صالة رقص قائمة على التعرى. لكن الرزق شحيح والزبائن قليلون. فتفتق ذهنه عن التقاط صور للراقصات كنوع من الدعاية. وهكذا ولدت مجلة «هستلر».
لكن الفيلم برغم ذلك أكبر بكثير من مجرد مشاهد دعارة وانحلال خلقى. بل لعله يفسر لنا ما يحدث بمصر حاليا.
■ ■ ■
الأحداث تدور فى السبعينيات. لا عجب أن ثار المحافظون على خلاعة المجلة. الوضعيات الفاسقة وامتهان الجسد البشرى. قدموا لارى فيلنت إلى المحاكمة. القاضى المحافظ بدا كارها بشدة لكل ما يمثله. ولذلك كان الحكم قاسيا: السجن لمدة خمسة وعشرين عاما.
والآن ما رأيك عزيزى القارئ فى ذلك الحكم؟ لا شىء أسوأ من إفساد الذوق العام ونشر الفاحشة. هل تقبل أن تقرأها ابنتك المراهقة؟ والحكم الصالح هو ذلك الذى ينشر الأخلاق الحميدة. والعضو الفاسد يجب أن يبتر حتى لا يفسد باقى الجسد. أليس كذلك؟ الحكم معقول جدا وأنت تؤيده.
■ ■ ■
لكن فى المقابل هناك وجهة نظر أخرى. لخصها محاميه فى مرافعته البليغة قائلا:
«لا أطالبكم بأن تحبوا ما يفعله» لارى فلنت. إنه شخصيا يكره ما ينشره. ولكن ما يحبه أن يعيش فى بلد يستطيع كل إنسان أن يتخذ فيه القرار بنفسه، أن يلتقط مجلة هستلر أو لا يلتقطها. يقرأها أو لا يقرأها. هو يحب أن يتمتع بهذا الحق ويهتم به، ويجب على المجتمع أن يهتم بوجود الحريات المدنية لأننا نعيش فى بلد حر.
هناك ثمن للحرية أن نتقبل الأشياء التى لا نحبها. لو وضعنا الجدران حول ما يعتقده البعض دعارة، فسوف نستيقظ فنجد الجدران قد أحاطت بأماكن لا نريدها وأننا لا نستطيع رؤية أى شىء أو فعل أى شىء. أمريكا أقوى دولة فى العالم الآن لأنها أكثر البلاد حرية. فإذا تنازلت عن الحرية فقدت مكانتها.
■ ■ ■
«لارى فلنت» على المستوى الشخصى انتهى أسوأ نهاية ممكنة! صار مشلولا شبه مجنون، وزوجته انتحرت بعد أن أصيبت بالإيدز جراء إدمانها وفسقها.
لكن دعونا الآن من الفيلم ولنلقى نظرة على أحوال مصر. لدى أصدقاء يؤيدون النظام الحالى بشدة. ولا تهتز شعرة من رؤوسهم لكبت الحريات والاستبداد بالرأى وصراخ المعذبين خلف القضبان. برغم أن أصدقائى هؤلاء من أرق الناس أفئدة. والسبب أنهم اقتنعوا بأن هناك مؤامرة على مصر تستهدف الدولة ذاتها. وبالتالى فإن القسوة مع المعارضين ليست مغفورا لها فحسب، بل هى ضرورية.
لارى فلنت! أليس كذلك؟.
وهناك أصدقاء لى يماثلونهم فى رقة الأفئدة، ولكنهم مؤيدون للإخوان، وكانوا يعتقدون من قبل أن النشطاء والعلمانيين مجرد مخربين يريدون تعطيل المسيرة. ولذلك فإن تجاهلهم فى أحداث محمد محمود فضيلة! ورفضهم أن يمدوا أيديهم للبرادعى عمل صائب. واستئثارهم بالمناصب المهمة فريضة عليهم، بل يأثمون إن فعلوا غير ذلك.
لارى فلنت أيضا، أليس كذلك؟
■ ■ ■
إنها معضلة المعضلات كما ترى. أن نختصر الكون فى أنفسنا. وأن نلغى وجود الآخر الذى نكرهه ونحتقره. لقد مر الغرب بهذا المخاض ووصل للنتيجة نفسها. لن تقوم لهذا البلد قائمة، وسنظل فى اضطراب حتى نصل إلى حل توافقى، يوجد فيه مكان فوق السطح لمؤيدى السيسى والإخوان والسلفيين والأقباط والعلمانيين والنشطاء الثوريين والحزب الوطنى وحزب الكنبة، للملتحين وأصحاب الشعر الطويل، للمنتقبات وصاحبات الثوب القصير، مهما كنت ترفض -أو حتى تحتقر- فريقا منهم.