أعواد الكبريت تتراصُّ أفقياً

معلقٌ بين السماء والأرض فى تلك النقطة الحرجة. لا هو منهمك فى عالم الأرض، ولا قادر على الالتحاق بالسماء. الأفق بحر أزرق صافى اللون. وعلى امتداد البصر لا شىء إلا السماء.
لم يكن يعرف أكثر من اسم قريته حين وضعوه على قمة المبنى الخطير. حاملا سلاحه المصوب نحو المجهول المتسلل. اليقظة ليست اختيارا، والانتباه لن تُكافئ عليه. ولكن سيشتد عقابك إذا غفلت لحظة.
لا أحد يستطيع الوصول إلى برج المراقبة العالى سوى الطيور صاحبة الأجنحة القوية. والمبنى نفسه فى مكان منعزل، لكن البيوت قصيرة الطوابق بدأت تنتشر من حوله. السيارات تبدو كألعاب أطفال، والمارة القليلون يبدون من الارتفاع الشاهق كأعواد الكبريت.
ورياح الأعالى تهب بقوة. لم يكن يعرفها وهو يبذر الحب فى قريته. ما أبعد هذه الذكريات عن عالمه الآن، وما أغرب التحولات التى حدثت بنفسه. فى البدء كان يشتعل شوقا إلى عالم القرية. ما تكاد تحين إجازته حتى يسارع إلى قريته يحمله الشوق. يرتدى الجلابية الفلاحى، يتمرغ فى القراريط التى يملكها، يستنشق بعمق رائحة الخصوبة، ويعالج الأرض بأنامل عاشق.
الطيور تجرأت عليه هذه الأيام. فى البدء كانت تحوم حوله فى فضول. طائر كلفه شهراً من الحبس الانفرادى. لم يفعل أكثر من الشرود وتأمل الطائر. ومن أين له أن يعلم، هو المعلق بين السماء والأرض، أن الذى يحبس النسور على كتفيه، قد لمح التفاته بعينه الثاقبة. عاقبه بالحبس الانفرادى. تشابه الليل والنهار حتى كاد يجن. وعندما عاد إلى برج المراقبة ما عاد يلتفت لغواية الطيور.
■ ■ ■ ■
إدمان التحديق فى الزرقة الصافية والعزلة بين السماء والأرض جعلا منه إنساناً آخر. والريح لم تعد تقتلعه وكأنها أدركت أنه صار ينتمى إليها. لا ينسى تلك الليلة حين بدأوا يتسربون من المبنى الغامض. ولا هذه الحركة المحمومة المتخفية لنقل ملفات سرية. بالتدريج خلا المكان إلا منه. لكن أحدا لم يخبره بشىء أو يطلب منه الانتقال. أتراهم نسوه فى هذا الارتفاع الشاهق؟ حتى الذى كان يناوبه المراقبة لم يعد يجىء. هذا شأنه، المهم أن يثبت هنا فى برج المراقبة، كعمود صوارى، كتمثال حجرى، كصنم مندثر، لم يعد يدرى لمن ينتمى.
ينام ويستيقظ هنا فى عزلة مطلقة. شىء ما تغير داخله منذ تلك المرة الأخيرة. حين أجبر نفسه على الذهاب إلى القرية. عجز أن يعالج الأرض أو يحنو على الزرع. عجز أن ينهمك فيما ينهمك به البشر، أو يتمرغ فى التراب كعادتك. ركض إلى الدار كأن مساً أصابه. صعد إلى أعلى الدار، لكن كل شيء بدا له منخفضا وتافها. فى الليلة ذاتها عاد إلى الأعالى. إلى حيث صار ينتمى. إلى العزلة والأفق المزرق وأعواد الكبريت التى تكاثرت فى الشوارع وكأنها لم تعد تهاب المبنى الغامض.
■ ■ ■ ■
وماذا لو هجموا عليه أو تسللوا إلى الداخل؟ الطيور صارت تتجرأ وتحط على كتفيه، وكأنه لا يملك بندقية. أعواد الكبريت تجرأت هى الأخرى وصارت تقترب من المبنى المهيب، وكأنها تعرف أن سلاحه الصدئ لم يُستخدم أبدا. الأصل أن أعواد الكبريت تتراص فى الوضع الأفقى، فلماذا- بعكس كل الأعراف- تتحرك وتنتشر وتقترب؟.
■ ■ ■ ■
وهكذا انطلق دوىٌ متلاحق أفزعه شخصيا. لكنه تحامل على نفسه واستمر فى التصويب. وفاحت رائحة البارود وتناثرت العيدان ممددة فى الوضع الأفقى المرغوب.