مبادئ وليست آليات

إذا كان القرآن لم يحدد آليات تسلم الحُكم والخروج منه، كما ذكرت فى مقال سابق، فإنه أوضح بجلاء المبادئ التى تجعل الحُكم، بصرف النظر عن مسماه، رشيدا.
أولا: هناك النظرة الكلية للكون والحياة: فالقرآن يلفتنا إلى أن الله ليس خالق الكون فحسب، وإنما هو أيضا المالك الحقيقى له. وبالتالى فإن هذه الحياة ليست نهاية المطاف، وإنما هى معبر إلى رضوان الله ورحمته أو إلى سخطه وعذابه. هذا التصور الكلى- لو أحسن تمثله- لا يمكن أن يؤدى إلى حكم مستبد.
ثانيا: المجتمع الذى يهتدى بتعاليم القرآن هو مجتمع صحى متكافل. متعاون على البر وفعل الخيرات: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».
ثالثا: اختيار الحاكم يتم بالشورى (وأمرهم شورى بينهم). وحتى بعد توليه الحكم فإن جميع أمور الدولة يجب أن تسير بناء على التشاور والقبول الجماعى «وشاورهم فى الأمر».
رابعا: صفات الحاكم: أن يكون متسما بالتقوى والصلاح «لا ينال عهدى الظالمون»، والعلم والقوة «قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم»، وأن يكون أيضا أهلا للمسؤولية الملقاة على عاتقه: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها».
خامسا: حقوق الرعية على الحاكم مؤكدة كحق الحياة (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق)، وصيانة الأموال (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)، وحماية الكرامة (لا يسخر قوم من قوم)، وحماية الخصوصية (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) و(لا تجسسوا)، وصيانة حرية الاعتقاد (لا إكراه فى الدين)، والمسؤولية الفردية (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، وحق المتهم فى البينة (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، وحقوق الفقراء والمحتاجين فى أموال الدولة (وفى أموالهم حق للسائل والمحروم).
سادسا: وللحاكم حقوق أيضا على الرعية كى يستطيع أن يؤدى الأمانة، أولها الطاعة (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)، وعدم الفساد (ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها)، والتعاون فى أعمال الخير (وتعاونوا على البر والتقوى)، وأن يبذلوا أرواحهم وأموالهم فى سبيل الدفاع عن الدولة (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله).
سابعا: ومبادئ السياسة الخارجية من أرقى ما تكون: فهناك احترام المعاهدات (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا)، والعدل الدولى (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وحب السلام (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، ومعاملة الدول غير المعتدية بالحسنى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، ومقابلة الحسنى بالحسنى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، ومعاملة المعتدين بنفس معاملتهم (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).
ثامنا: مسؤولية الحكومة عن الشعب تبدأ بالعدل بين الناس (وأُمرت لأعدل بينكم)، والمساواة بين الرعية (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، ومحاسبة الحاكم (يقول الرسول: ما من وال يلى رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)، والمسؤولية الجماعية ( يقول الرسول: ألا كلكم راع وكلم مسئول عن رعيته).
تاسعا: أما النتيجة النهائية للحكم الإسلامى الرشيد فهى إعمار الأرض وإقامة المجتمع الإنسانى العالمى (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر).
■ ■ ■
وهكذا كما ترون، فإن القرآن حدد مبادئ الحكم الرشيد ولم يحدد آليات الحكم، وهو الأمر الذى تركه لتطور الجماعة البشرية، فإن طُبقت هذه المبادئ كان الحكم رشيدا، وإن لم تُطبق فهذا ذنبنا وليس ذنب القرآن الكريم.