مذكرات زوجة ملحد

وصلتنى هذه الرسالة الطويلة من سيدةٍ طلبت حجب اسمها. بعد عدة سطور، أدركت على الفور أننى أمام كنز بمعنى الكلمة.

فى المعتاد أقوم بتلخيص رسائل القراء، بحيث لا تتعدى مساحة مقال يوم واحد. لكن هذه المرة لم يطاوعنى قلبى على الاختصار. نحن أمام شهادة حية، نابضة بالمشاعر والأفكار المتصارعة، وحرام أن أختصرها.
اليوم، وطيلة الأيام التالية، سوف أواصل نشر هذه الرسالة، وربما أكتب تعليقا بعدها. فلنقرأ ونتدبر.
■ ■ ■
تقول الرسالة: «تابعت قراءة سلسلة مقالاتك» شبهات حول العقيدة. وشعرت بأهمية أن أتكلم. فقد كانت لى تجربة فى الإلحاد مع إنسان قريب جدا. مع زوجى الحبيب، للأسف الشديد. قررت أن أهديها لقرائك الكرام حتى يتعظ منها من يتعظ، ولا ينساقوا وراء فكرة مدمرة، ستفسد حياتهم بالكامل. وأن يعلموا كيف يحدث التدرج فى الإلحاد، وكيف يؤثر أصدقاء السوء فى فساد المعتقد.
اكتبها، وأطلب منك أن تحجب الأسماء. بل أطلب منك أيضا أن تحجب التفاصيل الشخصية التى قد تؤدى إلى تخمين شخصيته. فأنا لا أريد أن أفضحه، كما لا أريد أن يداخلنى رياء حينما يعلم الآخرون حجم التضحية التى دفعتها.
أكتب قصتى الحزينة، قصتى المريرة، متمنية من الله أن تكون صدقة جارية، ولعل أحد قرائك يكون مستجاب الدعوة فيدعو له بالهداية.
■ ■ ■
بسم الله الذى لا إله إلا هو أبدأ قصتى. هو زوجى. آه لو تعلم كم أحببته. كان أول رجل فى حياتى. تقدم لخطبتى عن طريق أحد الأقارب. لن أستطيع أن أصف لك كم كنت أهواه، وكم كان يعشقه قلبى! حبا أكبر من المكتوب فى الروايات. أذكر أننى فى صباح عرسى وجدنى أبكى بجواره، ولما سألنى متعجبا أجبته أننى قد وصلت لأقصى مدى للسعادة. وأننى أتمنى لو أموت فى هذه اللحظة.
كان يحبنى بالتأكيد، لكن حبى كان أكبر من حبه. حتى إننا تشابهنا فى الشكل. كل من كان يرانا سويا يلمس ذلك العشق فى عيوننا.
طيلة سنوات الخطبة والسنوات الأولى من زواجنا كان متدينا، ولم يكن ذلك مستغربا، كونه منحدرا من عائلة ملتزمة. عيبه الوحيد كان هو غروره وتكبره، واعتزازه الزائد بعقله وفكره. وإذا تناقشنا فى شىء يهزأ بى، وكأنه لا يرى أحدا كفئا لمناقشته. وكان معجبا أيضا بكفاءته فى العمل مثلما كان يتيه إعجابا بشكله وهيئته وحسن مظهره.
■ ■ ■
فى العامين الأخيرين بدأ يتغير هوناً فَهَوناً. فى البداية وجدته مشدودا لقنوات الشيعة يسمع مناظراتهم مع السنة، وبدا لى مجذوبا لفكرهم. لكن لم يتغير شىء فى عبادته، ولذلك كنت مطمئنة. ثم انقلب إلى الصوفية، وبدأ يذهب لأخذ البركة من شيخ طريقته، وحكى لى أنه حضر حفلة الذكر، وتعلم أن يهز رأسه مثلهم. وبدأت كلمات تأخذ طريقها إلى كلامه عن التخلية والتحلية والتجرد الكامل، حتى إن المخلوق يتهيأ له- معاذ الله- أنه الخالق (جل جلاله).
ثم تركهم، وذهب للقرآنيين. قوم ينكرون السنة، ويؤمنون بالقرآن فحسب. ويصلون الصبح والمغرب والعشاء فقط حسب تفسيرهم للآية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل). بعدها ينتقد الفتوحات الإسلامية، ويقول إنها كانت لسلب الأموال والتمتع بالنساء، وإذا جادلته سخر منى قائلا: «إنت عايزانى أعيش زى البقرة! وأعمل زى اللى الناس بتعمله. شغلى عقلك بدل ما يصدِّى».
■ ■ ■
غدا نتابع- بإذن الله- الطريق الوعر الذى قطعه زوج هذه السيدة.
(2) 
ما زلنا نتابع الخطاب الذى أرسلته لى زوجة ملحد.
«لم أخبرك أنه فى هذه الأثناء كان الله قد أنعم على بطفل، ثم استرد الخالق وديعته. لن أخفى عليك أنى سخطت وقتها، و(زعلت) من ربنا كثيرا. ولعلك ستندهش أن الذى ردنى إلى رشدى هو قول إحدى المعزيات لى: «كان ممكن جوزك يكون هو اللى مات».
ساعتها فقط دعوت الله أن يبقى لى زوجى حبيبى، حتى بدون أبناء. إلى هذا الحد كنت أحبه!
■ ■ ■
سافر زوجى بعدها خارج مصر فى عمل. ودعته وأنا أنزف وجعا وشوقا. بعد شهر تغير فجأة. صار لا يتصل بى على الهاتف أو الإنترنت. قل كلامه جدا. ثم تذكرت أننى أعرف باسورد الفيس بوك الخاص به، ودخلت وليتنى ما دخلت. وعرفت ويا لهول ما عرفت. زوجى المصون يتعاطى الحشيش والخمر هو الذى لم يدخن فى حياته. لم أواجهه ولكنى بدأت أذكره بتقوى الله فى اتصالاتى التالية، ولكن- واأسفاه- وجدته يتحدث مع أشخاص يشجعونه على الإلحاد ويهزأون من كل شىء، حتى القرآن ألفوا مثله على وزن الآيات، ويسبون النبى واصفين إياه بالكذب ومغتصب النساء والأفاك سفاك الدماء (أستغفرك ربى وأتوب إليك) للدرجة التى أصابتنى بذبحة قلبية وأنا أقرأ هذا الكفر. كل ذلك ولا أحد يعلم من أهلى ولا أهله.
■ ■ ■
ثم جاء موعد وصوله. استقبلته وواجهته. كان مفطرا فى رمضان. إلى هذا الحد هان عليه دينه. شرعت أعظه وأذكره: «حرام عليك. ارجع لدينك، لربك» فيقول لى: «مين ربنا؟ أنت صعبانة علىّ. عيشى حياتك. لو خرجت بشعرك سيكون شكلك أجمل. على فكرة طعم الخمر حلو أوى. أنا كنت مخدوعا لكنى فقت قبل أن أفنى».
بكيت: «أنت إزاى تقول كده؟ يعنى إيه مين ربنا؟ ربنا إللى فى قلبى وقلبك. بس أنت بتكابر». يضحك ويقول لى: «الضعفاء فقط هم من يحتاجون لإله، بسبب حاجتهم النفسية لدعمه. لكن لو فكروا صح حيعرفوا إن مفيش حاجة اسمها ربنا أو أديان من أساسه. قولى لى إيه فايدة الأديان ما دامت الإنسانية موجودة؟ الأخلاق اللى فى الأديان هى الإنسانية. ربنا بتاعك اللى بتدعيه. طب ما كنا بندعيه عشان يخلى ابننا أهو مات! ما استجابش ليه؟ عشان مش موجود أساسا. يا بنتى اطلعى من قيودك دى. فكرى بعقلك. إحنا بيربطنا الوعى الجمعى والكون نشأ بالانفجار الكبير وحينتهى فى وقت محدد، ولا يوم قيامة ولا هجص من اللى بيضحكوا بيه على عقولكم (أستغفرك ربى من هذا الكفر)».
آه يا دكتور أيمن وجعنى قلبى والله لمجرد تذكر الحوار. لاحظ أن معلوماتى الدينية ليست كبيرة إلى الحد الذى يجعلنى كفئا للرد على هذه الشكوك، ولشد ما أتمنى الآن لو كنت كتبت لك وقتها، لعلك كنت تستطيع الرد عليه وإنقاذه.
بعدها سافر إلى عمله بالخارج بعد أن قام بتغيير (الباسورد) كيلا أتمكن من الدخول لصفحته.
■ ■ ■
ثم جاءت اللحظة التى لن أنساها قط. حين وجدتنى أذهب إلى الكمبيوتر، وأفتح جوجل، ثم أكتب فيه بأصابع مترددة: «الدليل على وجود الله». قبل أن يكتمل تحميل الصفحة ارتفع أذان العصر فشعرت بالخجل الشديد من ربى، أنى أبحث عن دليل لوجوده وهو أقرب من أن يُستدل عليه. وأدركت وقتها أن الشكوك بدأت تتسرب إلى عقلى، وأن البذرة الخبيثة التى زرعها داخلى بدأت تنبت، وأنه لا حل لها سوى اقتلاعها من الجذور.
لحظتها اتخذت قرار الطلاق. (نستكمل غدا بإذن الله).
(3)
ما زلنا مع زوجة الملحد تحكى حكايتها، عندما لاحظت أن الشكوك بدأت تتسرب إلى عقلها، بسبب البذرة الخبيثة التى زرعها زوجها داخلها، ثم كيف بكت والأذان يتلى، وكأنه يعاتبها أنها تبحث عن دليل على وجود الله، وهو- سبحانه- أظهر من أن يُستدل عليه، وكيف وصلت لحظتها إلى قناعة أنه لا حل لهذه الشجرة الخبيثة سوى اقتلاعها بالطلاق.
■ ■ ■
تقول السيدة:«جددت إسلامى وأنا أردد الشهادة مع الأذان. كان قلبى ينزف ودموعى تسيل وأنا أردد: (يا رب لا أريد سوى رضاك. اللهم ثبت قلبى على دينى. يا رب توفنى قبل أن أُفتن). كنت أبكى بكاء حارا وأغطى وجهى حياء من ربى أن شكوكه تسربت لى. تضرعت إلى خالقى: اللهم انزع حبه من قلبى. وليذهب فى حال سبيله بعيدا عنى».
■ ■ ■
وبالفعل. اتصلت به وأبلغته فى لغة حاسمة أن يوكل أحدا لتطليقى ولن أفضح ستره. وإذا بالمفاجأة الكبرى تحدث. المفاجأة التى لم أتوقعها قط. سمعته يبكى عبر الهاتف، ويقول لى إنه بالفعل بدأ فى مراجعة أفكاره، ويقسم بالله أنه قد عاد لرشده. وطالبنى بالتأنى والصبر حتى يعود ونذهب معا لأداء العمرة. لم تسعنى الدنيا من الفرحة. وشعرت وقتها أن روحى قد عادت لى وأننى استعدت زوجى الحبيب.
■ ■ ■
وبالفعل عاد زوجى فلم ألمسه حتى اغتسل وتوضأ. وصلى بى إماما وأنا أبكى من شدة الفرح. وانتهت الصلاة فرميت نفسى فى حضنه. وكأننا تزوجنا فى هذه اللحظة. بكينا نحن الاثنان والتقينا كأزواج بعد فراق جسدى وروحى وعقائدى. ثم راح هو فى نوم عميق وبقيت أنا مستيقظة.
وحتى هذه اللحظة لا أدرى ما الذى جعلنى أتناول هاتفه وأبحث فى رسائله حتى قبل أن أغتسل. وإذا بالطامة الكبرى أنه يخادعنى. وإذا بشركاء الإلحاد يخططون لتجربة نوع جديد من الخمور. وإذا به يبلغهم أنه اضطر للكذب علىّ كيلا يحدث الطلاق وأفضح أمره أمام أهله.
دكتور أيمن. لن أستطيع أن أخبرك بشعورى فى هذه اللحظة. شعرت أننى أموت، وقمت بسرعة لأغتسل من النجاسة! ثم أخذت الهاتف وغادرت البيت لوالده لأريه الكلام المكتوب! وفيه أيضا أنه يخشى إصابته بالإيدز لعلاقاته مع العاهرات. تخيلوا: زوجى الحبيب المؤتمن يعاشرنى، ولديه احتمال أن يكون مصابا بالإيدز ثم لا يبالى أن ينقله لى!
■ ■ ■
أبوه المسكين لم يستطع الكلام، كان الله فى عونه. عندما عدت للبيت وجدته يقظا، ومدركا أننى أخذت هاتفه وعرفت كل شىء. طلبت منه الطلاق فرفض فجريت على درج الأدوية لأبتلع شريطا بأكمله. رآنى فحاول إخراج الأقراص من فمى بالقوة ولكنى ابتلعت ما تبقى. وراح يهدئنى ويقول: «خلاص خلاص حاطلقك».
لكنه ظل يماطل بعدها حتى انتهت عطلته وسافر مرة أخرى. لكننى استيقظت يوما فى الفجر وانفجرت فى الدعاء الباكى أن يجبره الله على الطلاق. والعجيب أننى عندما تحدثت إليه هذه المرة قلت له بكل ثبات: «أنت تعلم أنك لا تصلح زوجا لى، وأن العقد قد انفسخ من تلقاء نفسه. وفى المقابل أعدك أننى لن أقول سبب الطلاق لأحد».
وبالفعل وفيت بوعدى فيما عدا أمى. وكنت مضطرة إلى ذلك لأن الطلاق فى أسرتنا فضيحة لم تحدث من قبل. وكان إلحاده هو السبب الوحيد الذى سيجعلها توافق على قرارى.
(نتابع يوم السبت بإذن الله).
(4)
هذا هو الجزء الأخير من رسالة السيدة التى اكتشفت أن زوجها ملحد.
■ ■ ■ ■
«نسيت أن أخبرك أنه كان يقول لى إنه يتمنى أن ينجب أطفالا ملحدين مثله، ويورّثهم خبرته وفكره وإلحاده. وقتها حمدت الله أن طفلى مات، وعرفت أن الله اختار لى- ولطفلى- الخير، وتذكرت قصة العبد الصالح حين قتل الغلام لأنه كان يعلم- بعلم الله- أنه سيصبح كافرا. وإنه لأحب لى أن يموت خير له من أن يورده الهلاك هذا الأب الكافر الجاحد.
■ ■ ■ ■
المهم أنه ذهب للمأذون ونطق كلمة الطلاق، وكنا قد اتفقنا أن أبرئه من كل حقوقى وأنا أعلم أنى الفائزة. لا أكتمك أننى تركته وأنا به متعلقة، فقد كان أول رجل فى حياتى.
الحمد لله صار اليوم مجرد ذكرى. العجيب أننى- بعد طلاقى- ازدحم طلاب الزواج على بابى. وبالفعل منّ الله علىّ بزوج أحسبه على خلق ودين. وعلمت وقتها أهمية الدعاء (اللهم ثبت قلوبنا على دينك. اللهم لا تجعل مصيبتنا فى ديننا). هذه دعوات لا يعرف قيمتها إلا من جربها. أحيانا أشعر بالذنب وتأنيب الضمير لأنى لم أصبر عليه طويلا. لكنى كنت خائفة أن يجرفنى تيار الشكوك وأجدنى غريقة فى بحر الكفر والعياذ بالله. وقلت لنفسى إن ملحدا واحدا أقل ضررا من اثنين أو ثلاثة أو أربعة (لو أنجبنا).
■ ■ ■ ■
ورغم كل الحزن الذى أورثنى فمازلت أدعو له بالهداية. وأنصح كل من يرى فى نفسه النبوغ العقلى ألا يستعلى على الخالق. هو لم يكن يعلم أنه سيصبح ملحدا ولكنه انساق مع التيار. أذكر أنه عندما كان مع القرآنيين وجدته سهران على النت فسألته عما يصنع، فقال: «فيه واحد من الملحدين (ولاد الـ...) بأرد عليه».
تخيلوا! كيف انحدر من رد على الشبهات إلى الإلحاد نفسه!
■ ■ ■ ■
لقد دفعت ثمنا باهظا، ولكنى فزت بـ(لا إله إلا الله) التى لا تُقدر بثمن. مازلت أذكر حالى مع الله أيام البراءة الأولى. كم كنت أحبه من كل قلبى. كنت حين أصلى أرتدى أجمل ملابسى. وكنت أطيل السجود حتى أثير قلق أبى. ورغم ذلك كنت أشعر أن الصلاة تنتهى بسرعة!
كنت أحب خالقى من كل قلبى. وكان لدىّ يقين جازم أنه يحبنى، وإلا لما سمح لى بحبه. أيام كنت مع الله كنت أشعر أن الكون حضن كبير لى. كنت أراه فى كل شىء حولى. كنت أسمع تسبيح الكون فى صوت زقزقة العصافير وأذان الديوك وأنغام اليمام، أنشودة توحيد فائقة الروعة والعذوبة، تعزفها جميع الكائنات حولنا. شكل الهدهد الجميل الدال على خالق بديع، مرور السحاب وتساقط الأمطار ودموعى المنهمرة. وكنت أشعر بأشعة الشمس وهى تطبع على وجنتى قبلة دافئة. وكنت أعلم أن حب أمى لى وانفطار قلبها حين أبكى قبس من رحمته سبحانه.
كنت قليلة الكلام جدا، وأصابتنى عدوى الصمت التى ليتنى لم أبرأ منها. كان قلبى يفيض حبا على من حولى. أضع طعامى للقطط أمام المنزل، وأنظف إناء الماء الذى وضعته لها. وأساعد الفتيات فى حمل الأشياء الثقيلة. كنت أحب الله فأحببت جميع مخلوقاته. هذه كانت نفسى القديمة النظيفة قبل أن يتعلق قلبى بحب الدنيا، وأفقد براءتى. وحين تعلقت بحب البشر تلقيت جزائى. أنا بالفعل نسيت الله فنسيت نفسى. لكن الحمد لله أنه أعطانى القلب المنيب، الذى لا يستبدل أى حب آخر بحبه سبحانه وتعالى.
■ ■ ■ ■
انتهت الرسالة