المؤمن الفخور (2)

وإذا سألتنى عن تحليلى الشخصى لتزايد نموذج المؤمن المُتفاخر، الذى لا يستفيد المجتمع من تدينه، سواء فى العمل الاجتماعى أو - على الأقل - فى حسن الخُلق، قلت إن هناك سببين:
السبب الأول أن غرائز الأنانية وحب الجمع مُركبة فى النفس الإنسانية بشكل عميق. لكن الإنسان فى الأصل مخلوق راق، بث الله تعالى فى فطرته السمو والرغبة فى الكمال والتحليق. من هنا يكمن التناقض بين الروح والطين.
من ثم فإن النفس الإنسانية تلجأ - دون وعى - إلى (الأساليب النفسية الدفاعية) بإزاحة هذه الأخطاء على غيره، فينشغل بعيوبهم بدلا من أن ينشغل بعيوب نفسه، وهكذا يستعيد توازنه النفسى عن طريق الشعور بالتفوق الذى يحصل عليه بالاستعلاء على الآخرين.
والسبب الثانى يكمن فى غياب «تزكية النفس» التى كانت مجال اهتمام الشيوخ الصوفيين، خصوصاً إذا نظرنا إلى الصوفية من حيث كونها تعمقاً فى الجانب الروحى وزهداً وذكراً وعلاقة روحية بين شيخ ومريد.
ثم ضعف الاهتمام بالتربية الخلقية والروحية حين دب الفساد إلى الفرق الصوفية، وانتشرت الخرافات، وتزايدت البدع المتصادمة مع الدين. وتزامن هذا مع انتشار الفكر السلفى الذى يُحسب له اهتمامه بالدليل. للأسف لم يبذل الصوفى أى محاولة جدية لإصلاح الخلل الموجود لديهم، وانشغلوا - بدلا من إصلاحه - بالدفاع عنه، وعن الأضرحة والموالد وخوارق المشايخ ومهاجمة السلفيين. وإذا تخلت الصوفية عن أهم ثمارها، بل سبب وجودها الوحيد، فمن للتزكية الخلقية إذن، ومن لأمراض القلوب؟!
وهكذا كانت خسارة مصر فادحة لا يدركها إلا من عاش مثلى عصرين مختلفين، وشاهد أجمل ثمار الدين تذبل، ولا يهتم بغرسها ورعايتها أحد. كان جيل أبى رحمه الله، حينما تدركهم الصحوة الدينية، يتلقون تربيتهم الروحية والخُلُقية على أيدى مشايخ رقاق القلوب، متعمقين فى الجانب الروحى، يتعهدونهم بالرعاية ويرشدونهم إلى الحكمة الصافية فى مغالبة أهواء النفس، وتخليصها من الشوائب، وتنقية القلوب. لذلك كان الناس وقتها يعرفون أن (فلاناً) قد تدين حين يصبح لطيفا مع أقرانه، مُتحكما فى غضبه، واصلاً لرحمه، عطوفاً على الضعفاء والمساكين. كان التدين معناه أن يرقّ قلبه، ويلين خلقه، وتتواضع نفسه، ويشعّ النور من وجهه، وتجود يداه. ولم يكن واردا أبدا أن يكون علامة تدينه أن تضيق نفسه، ويسوء خلقه، ويتعالى على باقى خلق الله. لا أقول هذا الكلام جزافاً، بل أقوله عن علم، وعن مشاهدات كثيرة، هكذا كانت تجليات التدين حتى منتصف السبعينيات.
هذا أوان الصدق: سل نفسك يا عزيزى القارئ، إذا كنت تعتبر نفسك متديناً، ما الذى استفاده المجتمع من تدينك! مبدئيا، لو أنفقت الليل مُصلّيا، والنهار صائماً، فهذا شىء بينك وبين ربك، لم يفدنى بشىء. الذى يهمنى أن تكفّ أذاك عنى، ولا تتعالى علىّ، وأن تعاملنى برفق، وتكون لطيفا معى، مبتسما فى وجهى، وإذا أخطأت تتجاوز عن عثرتى، وتساعدنى إذا احتجت المساعدة. غير ذلك دعنى أصارحك أننى لم أستفد شيئاً من تدينك العجيب.