حفل الطلاب السنوي! لا ينكر أنه يستمتع بحضوره كل عام. ليس من أجل حفيدته العزيزة فحسب، ولكن ليجد مبررا للاهتمام بالحياة. ماتت زوجته وتساقط أصدقاؤه تباعا، لكنه لا يريد أن يستسلم للاكتئاب.
دخل المسرح متسحبا. الحفل بدأ منذ قليل، والصغيرة العزيزة لم تظهر بعد في المسرحية. آه أيتها الصغيرة غداً تشتركين في مسرحية الحياة! أسأل الله أن تكون فصولها معك أسعد من فصولي.
لمح مقعدا خاليا في منتصف الصف الثاني. فتسلل إليه بأقدام تثقلها الشيخوخة. العتمة تمنع عينيه من الرؤية الواضحة، لكنه سيعتادها بعد قليل. وسرعان ما اندمج في جو الحفل وراح يصفق في حماسة. جميلة حقاً تلك الحماسة للحياة.
............
صفق بحماسة حين انتهت الفقرة، وأُضيئت الأنوار لاستراحة قصيرة. أغشى بصره النور المفاجئ فراح يبحث بعينيه عن حفيدته، والتقت عيناه عرضاً بالسيدة الجالسة جواره، ثم تصلب في مكانه! عاد ينظر إليها في بطء وريبة! وكانت تفعل نفس الشيء حين انطفأت الأنوار مرة أخرى. لكنه ظل في شكه وذهوله! هل يحلم؟ معقول أن تكون هي.. سعاد!!؟؟
كانت سعاد صديقة شقيقته الوحيدة دولت. تتابعت الذكريات في لمح البصر. زيارتها المتكررة لبيته. النظرات المختلسة المشحونة بالمعاني، إلقاء السلام بلهجة ذات مغزى، الحديث المقتضب على الدرج، ثم اللقاء الأول في حديقة الأورمان. آه كنت أحبك حقا، فلماذا خذلتني يا سعاد!.
كانت هي الأخرى تسترق النظر إليه في حذر، وإن كانت حركاتها منضبطة وغير لافتة كعادة النساء! نساء! نحن نتحدث عن سيدة تخطت السبعين لو كانت هي! لكنها لا شك هي! لن يخطئ في سعاد.
لم يكن واعياً إطلاقا لما يفعله. همس بصوت منخفض:" سعاد!". وساد صمت عميق حتى تصور أن أبطال المسرحية توقفوا عن الكلام. وأرهف سمعه لأقل همسة منها. نظر نحوها بحذر ولكنّ العتمة منعته أن يرى وجهها بوضوح. قال بصوت أعلى قليلا ولكنه ما زال في نطاق الهمس:" سعاد". سمعها تقول في رزانة:" أهلا يا أمين".
إذا فهي هي! لم يكن ليخطئ فيها أبدا. تملكته حماسة جارفة أرجعته عشرات السنين إلى الوراء. قال وهو يضع يده على فمه كما الأطفال:" بعد هذه السنين!!". قالت مقلدة لهجته:" بعد هذه السنين يا أمين".
مد يده لمصافحتها فمدت يدا متحفظة مترددة، لم تكد يده تلمس يدها حتى ابتعدت. قال:" جئت من أجل حفيدتي" ردت مبتسمة:" وأنا جئت من أجل حفيدي".
......................
قالت له يوما:" لو تركتني فسوف أموت". كانت عواطفها جارفة نحوه. لذلك ظلّ تغيرها المفاجئ حيرةً لم تخففها الأيام! حينما دفعته حماسة الشباب ليطلب يدها من والدها قبل أن يتم دراسته الجامعية، واختار أبوها العريس الجاهز، ظنّ وقتها أنها ستتمسك به، وأنها ستموت- كما قالت- بدونه! لكن ما فائدة هذا الكلام الآن!؟.
وساد صمت مشحون بالذكريات، وارتفع صوت الطالبات اللاتي يؤدين دوراً في المسرحية، وانخفض صوت من يؤدون دوراً في الحياة! قال ليقطع الصمتَ المُحرج:" كيف حالك؟". قالت:" بخير الحمد لله". ثم في صدق:" نسيت أعزيك في دولت". قال في دهشة:" أنت تعرفين أخبارنا إذن!!". قالت في حزن صادق:" أنسيت أنها كانت يوماً صديقتي المقربة! تعازيي الحارة في زوجتك أيضا". سألها هامساً:" وزوجك؟" قالت:" رحمه الله", قال ذاهلاً:" فليرحمنا الله جميعا".
وارتفع تصفيق حاد ينبئ بانتهاء إحدى مشاهد المسرحية فصفق بطريقة آلية. لماذا انقطعت عرى الصداقة بينها وبين شقيقته؟. ما زالت الأسرار تحيّره! انتهز فرصة الراحة العابرة وقال مستدرجا:" لماذا لم تحاولي أن تتصلي بي لتعزيني في دولت؟". لم ترد وبدا له أن صمتها يحمل مرارة، وأنها أكتفت بهذا القدر من حديث الذكريات. قال محاولا استدراجها:" لماذا ألومك؟ أليس هذا هو العهد بك؟ ألم تخذليني زمان!؟".
وأُطفئت الأنوار وبدأ المشهد الأخير الذي كان يعرف أنه سيشهد ظهور حفيدته، إلا أنه أحس بحزن وغربة ومرارة. قالت في غضب مكتوم:" لا تفتح جراح الماضي يا أمين".
فتلهنأ بالغضب وبنطقها اسمك! ما زلت تعني لها شيئا رغم الأيام. قال متماديا:" لماذا خذلتني يا سعاد؟". قالت في ألم:" صه. أنت الذي خذلتني".
قال مذهولا ومستمتعا بالعتاب:" أنا الذي خذلتك؟ أنت تخليت عني وفضلت العريس الجاهز ونسيت كل العهود". قالت في غضب حقيقي:" تكذب ثم تصدق نفسك! ألم تخبرك دولت أنني انتظرك وأضربت عن الطعام!". قال غير مصدق ما يسمع:" عم تتحدثين يا سعاد! دولت أخبرتني أنك وافقت على العريس وطلبت مني الابتعاد!". قالت في دهشة:" لكني أوضحت كل شيء في الرسالة". قال في إصرار:" اقسم لك أن دولت لم تسلمني أية رسالة". قالت في ضعف:" لا أصدقك. أنت تكذب أو نسيت. دولت كانت صديقتي ومستحيل أن تفعل هذا. صحيح أنها تباعدت عني ولكن!!.. غير معقول أن..!!" ثم سكتت وعضت على شفتيها.
..............
وأُضيئت الأنوار، وارتفع تصفيق طويل يشي بانتهاء المسرحية. وقام الحضور يصفقون طويلا للأبناء الأعزاء. وقف بقامته الطويلة النحيلة إلا أنه بدا منحنيا على نفسه كعلامة استفهام. ووقفت هي في إعياء. وساد بينهما صمت حزين. وأشار هو إلى حفيدته التي كانت تبحث عنه بعينيها، فأضاءت ابتسامة حقيقية في وجهه. قال في شجن:" هم الآن في نفس أعمارنا.. زمان!".. تمتمت في رضا:" فليجعل الله حظهم أحسن من حظنا". وتحرك الصف وصار مجبرا أن يغادر مكانه ويتحرك. قال في حزن:" صدقيني يا سعاد. دولت لم تسلمني الرسالة! ولا أدري لماذا! ولم تعد موجودة لأسألها أو أعاتبها! أعرف أنه لا فائدة من هذا الكلام الآن، وأنه من المستحيل أن نغير أقدارنا، ولكن يهمني أن تصدقيني". قالت وهي تسير جواره وتمنحه ابتسامة مشرقة:" ربما من المستحيل أن نغير أقدارنا! لكننا نستطيع أن نصنعها الآن".
