ديكتاتورية الجمهور

ديكتاتورية الحاكم معروفة ونفاقه مفضوح. ولذلك فضرره محصور وتأثيره محدود. الناس تنصرف عن المنافقين وغالبا لا يلامسون أفئدتهم.
ولكن ماذا عن ديكتاتورية الجمهور؟. الرأى العام الذى لا يود سماع إلا ما يروق له. فإذا جرؤ الكاتب على التفكير بحرية يُقابل بالازدراء والتخوين وربما بالتكفير.
ويترتب على هذا شىء شديد الخطورة، وهو أن الكاتب– بوعى منه أو بدونه– يجد نفسه مدفوعا لكتابة ما يريد الناس قراءته رغبة فى الحصول على أثمن مكافأة يمكن أن يحصل عليها كاتب وهى التقدير المعنوى ومتابعة القراء. وفى هذا حرمان للمجتمع ككل من تبادل الخبرات والتماس الحق الذى قد يكون ملتبسا.
■ ■ ■
كلمة حق عند سلطان جائر صعبة، وأصعب منها كلمة حق عند جمهور جائر. ومن قبل تسببت السلطة الفكرية لأرسطو فى جمود الفكر الغربى قرابة ألفى عام، حتى امتلك الفيلسوف الإنجليزى فرانسيس بيكون شجاعة التفكير الحر ووضع أسس المنهج التجريبى مع نظيره الفرنسى ديكارت.
السماح بإبداء الآراء المختلفة مع سعة الصدر والاستعداد لنقدها بدون انحياز مسبق هو سمة المجتمعات المتقدمة بصرف النظر عن عقيدتها. وبالتأكيد سبق المجتمع الإسلامى النهضة الأوروبية بنحو ألف عام، وكانت التعددية سمة الفقه الإسلامى، وإلا فلماذا نشأت المذاهب الأربعة بدلا من مذهب واحد يلتزم به الجميع؟.
خد عندك مثلا هذه الأمثلة التى استقيتها من كتاب «فقه السنة» للشيخ سيد سابق.»الزواج بنية الطلاق زواج صحيح عند جمهور الفقهاء بخلاف الأوزاعى الذى اعتبره زواج متعة. المرأة لا تتزوج إلا بولىّ بينما يرى أبو حنيفة جواز أن تعقد قرانها بنفسها. اختلف الفقهاء فى طلاق المريض مرض الموت فمنهم من قضى لطليقته بميراثها منه سواء انقضت العدة أو لا، ومنهم من قال لا ترث كالشافعى.
اتفق جمهور الفقهاء على حرمة نبيذ الشعير (البيرة) أما فقهاء العراق (مثل أبى حنيفه) فقد حرم الكثير المسكر واعتبر القليل منه حلالاً بعكس الخمر المصنوع من العنب فإنه حرام مطلقا.
القتل مطلقا هو مذهب الشافعى لمن مارس اللواط بينما ذهب البعض أن حده حد الزانى (جلدا للبكر ورجما للمحصن) ومنهم من ذهب إلى التعزير لأنه ليس بزنا. أما الاستمناء فقال بعضهم بحرمته مطلقا بينما أوجبه الحنفاء إذا خيف الزنا، فى الوقت الذى أباحه ابن عباس والحسن. جمهور الفقهاء على حرمة تختم الرجال بالذهب بينما لبسه جماعة من الصحابة منهم سعد بن أبى وقاص ولعلهم حسبوا النهى للتنزيه، وكذلك الحرير.
■ ■ ■
أؤكد لكم أن ما سبق ذكره من أمثله لا يعتبر فتوى على الإطلاق ولا يجوز العمل بها دون الرجوع إلى المؤهلين للفتوى، ولكنها مجرد أمثلة سقتها للتأكيد على حدوث الاختلاف فى مسائل بأهمية الزواج والميراث والحدود. وهى بالتأكيد علامة صحة وعافية للمجتمع الإسلامى وقتها.