(المتدين المُنكسر) و (المؤمن الفخور)

لاريب أن هناك مداً دينياً يمكن ملاحظته بزيادة عدد المحجبات ومن يؤدون الصلاة، ويذهبون للحج والعمرة!. لكن فى الوقت نفسه تدهورت الأخلاق وتراجعت قيم إتقان العمل ومساندة الجار ومساعدة الفقير! ذلك لغز يحتاج إلى تفسير: إذا كان الدين هو التوحيد والأخلاق ( إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، فكيف نفسر هذا التناقض الخطير؟
أعتقد أن السر يكمن فى ( المؤمن الفخور!).
كقاعدة، المتدين الحقيقى لا يمكن أن يكون فخورا أبدا. بل لابد أن يكون منكسرا، شاعرا بالذنب، يتمنى أن تبتلعه الأرض لأنه مُقصّر فى حق مولاه العظيم. إنه يتأمل فى ملكوت السموات والأرض، والمائة مليار مجرة التى خلقها الله، إلهٌ بهذه العظمة كيف يعبده حق عبادته؟! وكيف يجرؤ أن يعصاه وهو العبد الذليل؟!.
المتدين الحقيقى يراجع نفسه دائما، ويتذكر الذنوب التى اقترفها فى الخفاء. إنه لا يدرى هل عمله مقبول أم لا؟ هل داخله رياء؟ هل يعبد الله للسمعة؟ إنه يعرف أنه لا أحد يدخل الجنة بعمله حتى الرسول صلى الله عليه وسلم! ويعرف أن عمر كانت تنهمر دموعه ويقول: «يا ليت أم عمر لم تلد عمر»! ويرتجف فؤاده هلعا حين يستمع لآيات مثل: «وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».
المتدين الحقيقى لا يشغل نفسه بأحوال غيره لأنه مشغول بحاله، ويرى نفسه أسوأ الجميع! إذا شاهد الأكبر سنا قال سبقنى فى الطاعات، وإذا شاهد الأصغر عمراً قال سبقته فى الذنوب. وإذا نادى منادٍ أن الناس يدخلون الجنة جميعا إلا واحداً، ظن أنه ذلك الواحد. ولأن معرفة الله قد خالطت قلبه فإنه يخشع لهيبة مولاه العظيم. الله الذى يسجد له ما فى السموات وما فى الأرض، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، فأنّى له أن يطمئن وهو يعلم أن جلده لا يقوى على النار! وأن عذاب الله شديد!
بل إن جفاء المحبوب للمُحبّ هو أعظم عقاب! فكيف بالمحبوب الأعظم الذى بدأ منه الحب وانتهى إليه؟! إن مجرد فكرة أن الله لا يحبه تملؤه بالحزن العظيم. وهو بين الحب والخوف والرجاء فى همّ مقيم. إنسان ينظر للحياة هذه النظرة، هل يُعقل أن يمشى بين الناس مُختالا فخورا؟ مستحيل.
المؤسف أن معظم قيادات التيارات الدينية ينتمون إلى فصيلة (المؤمن الفخور)! والمؤسف أكثر أنهم أعادوا إنتاج (المؤمن الفخور) فى جموع المتدينين. لا أريد أن أذكر أسماء ووقائع، لأن التجريح ليس هدف المقال. لكنّ كلامهم وأفعالهم تعكس إحساسا عميقا بالذات، وإذا أخطأوا يتلاعبون بالألفاظ ويرفضون الاعتذار.
هناك خلل فظيع أدّى إلى إنتاج (المؤمن الفخور) بدلا من المُنتج المنطقى (المتدين المنكسر). ومحاولة تفسير هذا الخلل تحتاج إلى مقال آخر. لكن المؤكد أن حل مشاكل مصر يبدأ بإعادة إنتاج المتدين المنكسر، الخاشع فى نفسه، الشاعر بالذنب، الذى يسعى لرضا الله عن طريق مساعدة الجميع.