باسم

شكرا للروائى «عبدالحكيم محمود»، لأنه ذكرنا بفلسطين الحبيبة التى هى فى القلب دائما.
■ ■ ■
كان باسم أجرأنا قلبا وأحبنا للمجازفة. إذا ما طارت الكرة فوق سطح ما كان أول من يتسلق، بينما الجميع يقفون بعيدا متحفزين للفرار. خائفين من النسوة العجائز فى الدور أو من الرجال ذوى السحن الكشرة.
ولولا باسم ما تسلقنا الأشجار العالية فى آخر قريتنا لنعود بثمارها الفجة تلك التى لم يكتمل نضجها بعد.
ولولا باسم ما فكرنا فى خطف ملابس الرجال يوم الجمعة من على حافة عين الماء الساخن الذى ينبع فى الركن الشمالى من آخر قريتنا فى البقعة المبروكة، وهم يستحمون فى لذة وانشغال، والفرار بها مختبئين نشهد صاحبها وحيرته وصراخه وزوغان عينيه فى كل اتجاه، حتى إذا اكتملت متعتنا تقدم باسم، وأعاد للرجل ملابسه، ثم يعود منتشيا بعد أن يغمره المسكين بشكره.
هكذا كان باسم. حركة لا تهدا وذكاء حاد كالنصل. ذلك الوجه الأبيض المصقول الذى تلمع فى صفحته عينان واسعتان سوداوان تفيضان بحبه للمشاغبة. وكانت كل البنات الكبيرات الجميلات فى قريتنا يداعبنه أن يكبر سريعا لأنها ستتخذه عريسا لها.
وكان ذلك يسبب لنا أشد الغيظ. غيظا مشوبا بالحب.
■ ■ ■
كنا كلما جاء أولاد المستوطنين اليهود ليلعبوا بالقرب من حينا تركنا لهم المكان إيثارا للسلامة. أما إذا كان باسم معنا فكان يصر على أن نلعب فى حينا وفى المكان الذى اخترناه.
فى تلك المرة كنا نلعب الكرة ومعنا باسم ونحن فى غمرة الحماس.. وباسم يحرز الأهداف. نادته أمه. ذهب إليها مسرعا، كان من المستحيل أن يترك اللعب لأى نداء سوى نداء أمه.
تركنا وجاءوا..
كانت كرتهم كبيرة ومنتفخة. وعليها كتابة بالإنجليزية ذات خط أنيق ومغرٍ، وكانت كرتنا قديمة وفارغة من الهواء ومليئة بالتجاعيد والنتوء.
بعد ساعة انصرفوا، فعدنا إلى حيث ملاعبنا.
كانت ثمة كرة مركونة جنب الحائط القديم لبيت الحاج حسن المهجور.. كرة تشبه تلك التى كانوا يلعبون بها. أشرت إليها دون أن أتكلم. كان بريقها واستدارتها يغريان الواحد بِرَكلها بكل قوته.
تجمعنا حولها دون أن يلمسها أحد منا. كلنا خائف أن يأخذها. وجاء باسم ونحن على حالتنا والأيدى فوق الخدود والعرق النازف من جراء اللعب قد جف ولم يبقَ من معالمه إلا خطوط ملحية فوق الوجوه التى تشبه الجمرات المتقدة.
لم يتكلم. أزاحنا من طريقه واندفع نحو الكرة وحملها وأخذ يقذفها فى الهواء ويستقبلها على صدره الصغير وكتفه ورأسه وبين يديه ونحن نهلل: «واحد اتنين تلاتة ونص»
لكن صوت الانفجار كان رهيباً!
ومن دون أن ندرى وجدنا وجه باسم الأبيض المصقول قد تلطخ بالدماء، وضاعت ملامحه.