وحدة


د. سحر وحيد الدين

"ما هذا الملل الذى أشعر به؟"
هكذا قال لنفسه و هو يحاول أن يقطع السكون الذى يخيم عليه.يفتح المذياع,ينطلق صوت المذيع:هنا القاهرة،إليكم هذا البرنامج..لايطيق صبرا،يحرك مفتاح الراديو،ينصت..أنا فى انتظارك..يغلق الجهاز،يخرج إلى الشرفة،ينطلق صوت من بعيد:ياااااااااظالمنى ...يااااااااااهاجرنى...وقلبى من رضاك محروووم.يااه!هذه الأغنية تثير فى نفسه ذكريات حزينة مؤلمة. يدخل إلى غرفته،ويغلق باب الشرفة.ماهذا الهجر و الظلم و الحرمان والإنتظار؟.ألا يوجد شئ واحد مبهج فى هذا العالم!.
يضئ النور..يجلس إلى مكتبه..يعبث ببعض الأوراق أمامه ثم يقوم مرة أخرى..يفتح التلفاز..ينطلق صوت المذيعة فى دلال تطرب له النفس..أخذ يتأمل فيها كم هى جميلة تلك المذيعة،ولكنها تبالغ فى وضع المساحيق على وجهها.

سرح قليلا فى جمال المذيعة،ثم أفاق من شروده على صوتها الطروب وهى تقول:
-و الآن حان موعدنا مع فقرة الرقص الشرقى,نقدم لكم الفنانة الإستعراضية "لولا عبده"،وهى فنانة موهوبة صاحبة مدرسة عريقة و أسلوب متميز فى هز الوسط و رفع الرِجلين و الضرب بالكعبين.
ثم أخذت تسهب و تطنب فى وصف مواهب الراقصة العظيمة و قدراتها الخارقة و أمجادها العريقة.
و ما كادت تظهر الراقصة الموهوبة على شاشة التلفاز حتى قام و أغلقه فى عصبية و ضيق.

زاد شعوره بالوحدة و الكآبة ..أخذ يطالع بعض الصحف..تتراقص الكلمات أمام عينيه.....حروب..إغتيالات..مذابح..سرقات..إختطاف..إغتصاب... أف.! أليس هناك خبر واحد سار! رباه! رباه!
"أى دمعة حزن لا لا لا لا"....سمع الكلمات تتردد من بعيد..أسرع بفتح المذياع مرة أخرى.......أخيرا وجد ضالته المنشودة....."
-"أى دمعة حزن لا لا لا لا.....أى جرح فى قلب لا لا لا لا.....أى لحظة حيرة لا.لا لا لا لا.....حتى نار الغيرة لا.لا لا لا لا......" وانطلق الصوت العذب الرخيم الحنون ينساب فى رقة و عذوبة يبعث فى نفسه إحساسا بالشجن و الأمل. لم يشعر بالوقت مع هذا السحر الأخاذ حتى سمع صوت المذيع يقول:
-نكتفى بهذا القدر من أغنية العندليب الأسمر.

-"لماذا؟!لماذا؟! حتى لحظات السعادة لا تدوم،لا تلبث أن تولى هاربة. ما هذا التعذيب والإضطهاد؟ماذا أفعل الآن؟يا لها من وحدة قاسية للغاية!
قلم إلى مكتبته يطالع عناوين الكتب:البؤساء-البخلاء-الطاعون-الإحتضار-الأنفس الميتة-الأمير الأعرج-الجريمة و العقاب-مذلون مهانون-الإخوة كارامازوف-الحب الآثم-الخاطئة-البحث فى الزمن المفقود...............
أخرجت أصابعه رواية "تاييس"للمؤلف "أناتول فرانس".لقد قرأ تلك الرواية عدة مرات،عن الراهب و الغانية,تلك الغانية التى صارت قديسة، والراهب الذى تردى إلى الهاوية.قلب الكتاب بين كفيه عدة مرات،ثم أعاده إلى مكانه مرة  أخرى.
قام يفتح التلفاز من جديد.كان يقدم أحد البرامج الذى استضاف الدكتور "فلان الفلانى" أستاذ الطب النفسى بإحدى الجامعات الكبرى. قال العالم الكبير فى ثقة:

-الإكتئاب مرض العصر,وهناك إكتئاب تفاعلى نتيجة لضغوط الحياة اليومية,وهناك إكتئاب حقيقى نتيجة لاختلال فى كيمياء المخ،أما الإكتئاب التفاعلى فلا علاج له،ومعلوم أن الإكتئاب هو مرض الأذكياء و المثقفين....عند هذا الحد لم يطق صبرا...أغلق التلفاز فى يأس...إتجه إلى فراشه فى محاولة للهروب إلى اللاوعى...تقلب على الجنبين ،وعلى ظهره،وعلى بطنه,هب وشب وألقى بجسده المكدود على الفراش مرة أخرى.....حاول أن ينام...لكنه.....لم ينم.